عفاريت المنطقة العربية
مقولة أن "من استحضر العفريت عليه أن يصرفه" صحيحة تماما فيما يتلعق بالمسئولية عن الفعل ونتائجه، ولكنها ليست صحيحة في الغالب فيما يتعلق بإمكانية تحقيقها "فالعفريت عادة – إن كان هناك من عفاريت غير البشر- أقوى ممن يستحضره، وأكثر تعقيدا من التصورات الساذجة لمن يأتي به ليحل مشكلة.
وفي منطقتنا العربية تحديدا عفريتان لا ثالث لهما –حتى الآن- الأول عنوانه الإرهاب ومضمونه خواء نفسي وانحسار للعقل عند الأجيال الشابة ومظالم اجتماعية وسوء إدارة للبشر سببه أنظمة سياسية متآكلة الشرعية وتفتقد نسبيا إلى الوعي بدورها الوظيفي والتاريخي، والثاني عنوانه "الوجود العسكري الأمريكي الكثيف في المنطقة" ومضمونه العلاقة الاستراتيجية الطاغية الضاغطة على اعتبارات السياسة المحلية والإقليمية في دول رئيسية مثل السعودية ومصر.
تصدير الشباب المسلم المتدين إلى أفغانستان أواخر السبعينات وحتى الثمانينات تحت عناوين الجهاد والدفاع عن الإسلام ضد الشيوعية عملية صنعت على أعين ثلاثة دول هي السعودية ومصر وأمريكا، بالمال (من السعودية) والسلاح السوفيتي القديم (من مصر) –حتى لا يمتلك السوفييت حجة بناء على دليل واضح هو نوعية السلاح الذي يستخدمونه أن أمريكا أو الغرب هو الذي يقف وراءهم- والتدريب (من أمريكا) وعلى يد ضباط وعناصر مخابراتية أمريكية ضليعة، والمذكرات والكتب والأوراق الرسمية في أرشيف الخارجية الأمريكية وغيرها تقدم أدلة ساطعة على ذلك.
وها هو هذا العفريت يكلفنا سوء سمعة عالمية، وانعدام استقرار داخلي لفترة طويلة من الزمن منذ أن ارتد السهم إلى أصحابه عبر العمليات "الإرهابية" في مصر بداية باغتيال السادات 1981، وصراعا داخليا بين توجهات المجتمع الفكرية تصب إجمالا –حتى اللحظة للأسف- باتجاه الظلامية والتفسيرات الغيبية ومعاداة العلم والارتداد عن روح العصر ومخاصمة إبداعات البشرية.
ناهيك عن الخسائر الاقتصادية ولنأخذ مثلا بسيطا مما أعلنته السعودية مؤخرا عن عزمها إنشاء سياج أمني طوله 550 ميلا هو نظام دفاع حدودي معقد يتكون من مجسات إلكترونية وقواعد وموانع طبيعية وآلاف الأميال من الأسلاك الشائكة على طول حدودها مع العراق بتكلفة قد تصل إلى 12 مليار دولار، ومن قبل ووفق تصريحات شبه رسمية أنفقت السعودية مئات الملايين من الدولارات في العامين الماضيين لتدعيم دوريات المراقبة على حدودها مع العراق، وتدرس السعودية أيضا نشر قوة أمن خاصة بقطاع النفط!، وغني عن الذكر بالطبع الكلفة الأمنية وتكلفة الخسائر الاقتصادية في مصر والسعودية وغيرهما من الدول العربية التي شهدت مكافحة أمنية للجماعات الإسلامية المسلحة.
أما العفريت الآخر فهو الوجود الأمريكي العسكري الضاغط والمستنفذ لثروات دول الخليج، والذي لم يأت به فقط الخوف من مغامرة أخرى لصدام بعد غزو الكويت 1990-1991 بل عدم الاعتماد ومنذ وقت مبكر على قوة عسكرية ذاتية، والاكتفاء بعقد صفقات أسلحة بمليارات الدولارات دون بشر مدرب وقادر على حمل السلاح ومستعد لدفع ثمن الوطن دما وضريبة، ولم يأت بتلك الاعتمادية المطلقة على "الحماية الخارجية" إلا عقلية لا تدرك –للأسف- أن الدولة ليست نشيدا وعلما وصحيفة وخطوط طيران وطنية، بل هي مواطن وحقوق ومساواة واتصال مع العالم ومعرفة بالأساس.
وها هو الحضور الطاغي للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة يحيد طموحات العرب قبل خمسين عاما، لا مشروع للوحدة ولا حتى تنسيق وتكامل اقتصادي، ولا استعادة لحقوق الفلسطينيين، ولا سماح بتنمية حقيقية، ناهيك عن توريطهم في دخول عداوات لا لزوم لها، وقطع لأواصر العرب عن بقية العالم –وخصوصا شرقه-، وجرف لحقوقهم الطبيعية في التقدم والنهوض.
صرف العفريت إذن ليس سهلا، وربما أن أولى خطوات صرفه هي الإيمان بالقدرة على امتلاك أدوات قوة خاصة تغني عنه، ومراجعة تواريخ المآسي التي سببها العفاريت عند استحضارهم.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home