Thursday, December 10, 2009

نقابة الصحفيين وخيل الحكومة

حين تصبح خيول السباق طاعنة في السن، عاجزة عن تحقيق الفوز في السباقات، يعطف عليها أصحابها من باب العرفان والرحمة، فيحجبونها عن المشاركة فيها، يوفرون لها مرعى أخضر تمرح فيه بقدر ما تبقى فيها من رمق قوة، تستريح من عناء المنافسة ولهيب السياط على ظهروها، تستجم تحت سماء مفتوحة، وتنعم بالهدوء والدعة.. لكن أصحاب الخيول عندما تختلط لديهم الأوراق، ويفشلون في تقدير قوة أحصنتهم، يدفعونها دفعا لخوض سباقات تقطع أنفاسها، ويظهر عجز الشيخوخة واضحا في ارتباك خطواتها.. فتبقى في الذهن صورتها الأخيرة.. منهكة خائرة القوى.. قابلة لكسر شموخها القديم.

أما خيل الحكومة حين تشيخ فتلقى من الإهانات الكثير.. لو لم تتلق رصاصة الرحمة يبيعونها إلى عربجي جاهل، لا يقدر ماضيها العريق، يربطها في مقدمة عربية كارو لتجر ما يضعه عليها من بضائع حقيرة، فتظل ترفل في الأوساخ حتى تنهي المقادير حياتها.

لو أنني في مكان نقيب الصحفيين الأستاذ مكرم محمد أحمد ولدي ما لديه من تاريخ نقابي ومهني محترم ما قبلت على نفسي أن أقضي سنوات ما بعد الخروج من المؤسسة في القيام بأدوار مرهقة، ولاخترت أن أستمتع بحياتي.. أن أختم مسيرتي بما يليق بتاريخي، لا أن أدخل معارك صغيرة على رئاسة النقابة فأواجه منافسا شابا (في الخمسين) يدخل الانتخابات لأول مرة فيسبب لي الإحراج.. لو أنني مكان الأستاذ مكرم لأدركت سنة الحياة، ولما واجهت رأيا نقابيا عاما يريد التغيير، ولاعتذرت عن تكليفات لن أجني منها بقدر ما سيجني الآخرون.

أجندة التغيير في نقابة الصحفيين المصريين لا تعني الأشخاص بقدر ما تعني الموضوع، فقدوم الأستاذ جلال عارف إلى منصب النقيب منذ ست سنوات، ونجاح عدد كبير من الصحفيين من غير الصحف "الحكومية" في انتخابات المجلس كان يعني أن الجمعية العمومية قد ضاقت ذرعا بتولي الحكوميين دفة العمل النقابي، وأن المطلب الأساسي لعموم الصحفيين وهو تعديل أجورهم بات مطلبا ملحا وضروريا، لا ينبغي أن يظل مرتهنا بأجندة الحكومة ورؤساء تحرير صحفها، ثم جاء الأستاذ مكرم قبل عامين ومعه غالبية مدعومة حكوميا إلى مجلس النقابة لتكمل وأد رغبة الصحفيين في تحسين أوضاعهم المالية بتقديم "رشاوى انتخابية" متواضعة، وكأنها حبوب لتسكين الألم لا لعلاجه الجذري، رشاوى ترضي محدودي الوعي قليلي الطموح، وتتسق مع منهج سياسي متبع منذ فترة طويلة في التعامل مع الصحفيين، "جوعهم تجدهم في خدمتك"، ولا يهم انحدار المهنة، ولا يهم أن تصدر صحف لمجرد الابتزاز، ولا يهم أن تختلط المادة التحريرية بالإعلانية، ولا يهم أن يتحول الصحفي مندوب جريدته في وزارة إلى مندوب الوزارة في الجريدة، وليذهب ضمير الصحفي إلى الجحيم.

لم يكن مفاجئا إذن أن تعود من جديد رغبة التغيير بقوة، وأن يحتشد نحو ألف وخمسمئة صحفي وراء ضياء رشوان المرشح لأول مرة لمنصب النقيب، وأن يتمكن الأستاذ مكرم محمد أحمد بالكاد وفي آخر نصف ساعة يوم الانتخابات من حشد النصاب القانوني للجمعية العمومية، وأن يعجز عن حصد نصف الأصوات الصحيحة، وكأنه لم يحصل إلا على تأييد ربع أعضاء الجمعية العمومية، فما بالك لو كان جلال عارف صاحب التاريخ النقابي قد ترشح أمام مكرم!

انتهت الجولة الأولى بتعادل بطعم الفوز لضياء رشوان، وتعادل بطعم الهزيمة للنقابي المخضرم مكرم محمد احمد (نحو عشرون عاما في العمل النقابي)، تعادل كان مفزعا لأروقة النظام السياسي، فتداعى كبار المسئولين في الحكومة لدعم مكرم وعرضوا تقديم مزايا إضافية له تساعده في حسم جولة الإعادة، لكنها لم تخرج عن نفس النهج القديم "رشاوى انتخابية" بديلة عن المطلب الأساسي. واحتشد رؤساء تحرير الصحف الحكومية وانبرى بعضهم لمواجهة ما سموه "دكاكين الصحافة"، دون أن يدركوا أنهم أيضا ينطبق عليهم نفس الوصف "دكاكين الحكومة".. صحف خاسرة وميزانيات ملفقة، لكنهم يحصلون دائما على الحوافز والمكافآت، بعضها أرقام مليونية سنويا، فلماذا لا يقفون ضد مرشح يريد تعديل ميزان مختل، ويدعمون مرشحا أحبط على مدى العامين الماضيين مشروع تعديل الأجور رغم أنه كان أحد وعوده الانتخابية!

أيا من كان الفائز في جولة الإعادة ستظل رغبة التغيير قائمة، فالقضية الأولى للصحفيين ليست سياسية بالمعنى المباشر، ليست الموقف من التطبيع ولا من توريث السلطة، القضية مهنية بجدارة، حرية الصحفي عبر تعديل أجره وتحسين مستوى حياته.

الدستور 13 ديسمبر 2009

0 Comments:

Post a Comment

<< Home