Thursday, December 15, 2005

الموت اغترابا

من يوميات صحفي في الخليج
هل يمكن أن يموت الإنسان –أن يموت- بسبب الاغتراب؟.. تردد هذا التساؤل في ذهني وأنا أستمع إلى الأستاذ محفوظ عبد الرحمن أثناء حوار معه، كان موضوعه "العرب في عيون مصرية"، قلت في نفسي "ربما أنه يبالغ".. ثم بصوت مسموع: "هل تقصد يا أستاذ محفوظ أن هناك أشخاصاً ماتوا فعلاً بسبب الغربة؟" أجاب بتأكيد قاطع: "نعم" ثم ضرب أمثلة محددة من أدباء مصريين قال إنهم ماتوا أدبياً وماتوا فعلياً بسبب الغربة، وأن فلاناً وفلاناً لو لم يمروا بتجربة الغربة القاتلة لكانوا ملء السمع والبصر الآن.

كنا في أواخر 1997 أوائل 1998 وتجربة جريدة الدستور في أوجها، ولم نكن ندري أنها تقترب من الموت! وكانت الفكرة مجموعة حوارات مع مثقفين وكتاب وأدباء مصريين عاشوا في الخارج "العربي" يمكنهم أن يرصدوا العلاقة بين العرب والمصريين كشعوب وأفراد بحيادية، دون أن تسيطر عليهم المشاكل والخلافات التقليدية الناشئة عن علاقات عمل المصريين في الخارج العربي، وقتها تحسس إبراهيم (عيسى) رئيس التحرير وجمال (فهمي) مدير التحرير من الفكرة رغم إعجابهما بها، خشية أن نثير مشاعر فرقة بين المصريين والعرب، وقررت أن أعدها مادة لكتاب لم يصدر بعد..

وأغلقت الدستور في فبراير 1998، ووجدتني بلا عمل أحبه، وبلا دخل منتظم يُسيّر الحياة، وكنت بإحساس دفين بالخطر الدائم من العمل في المهنة –كعادة كثيرين من الصحفيين- أفتح باباً آخر للرزق في مكتب البيان بالقاهرة مع أصدقاء آخرين-سعيد الشحات وصالح الفتياني، وأخيراً الأستاذ جلال عارف، وبعد قليل وجدتني مرشحاً للسفر إلى الإمارات للعمل بمقر الجريدة في دبي، وكنت أسعى حثيثاً للسفر، ولكن جلال عارف بأدبه الجم كاد ينصحني –لولا تقديره رغبتي في مغادرة مصر بكل ما فيها- بألا أسافر.

بعد ليلة مختلطة المشاعر، بذلت فيها جهداً للهرب من لحظة وداع الأطفال والزوجة وتجنب الدموع في العيون، وجدتني في سيارة على طريق صلاح سالم وعلى يساري قلعة صلاح الدين، وفي رفقتي صديقين يودعاني إلى المطار، ساعتها نظرت إلى القلعة، ولا أعرف كيف قلت بأسى ظاهر: "أشعر أنني أنسحب من القاهرة"، هل كان ما قلته بسبب السهر والإجهاد أم أشياء أخرى؟.. (حالتان اثنتان فقط تجعلان الذهن صافياً إلى أقصى درجة..السكر والصلاة).. ضحك خالد محمود-بأسى أيضاً- وقال: "داخل معركة يا عم أيمن.. متكبرش الموضوع"!

كنت غشيماً على ما يبدو، أظن أن الأمور متشابهة، مصر كالإمارات، الدستور أو الأحرار أو العربي صحف مثل البيان أو الخليج أو الاتحاد، ونحن كلنا صحفيون، سودانيين كنا أو لبنانيين أو فلسطينيين، ومتأخراً جداً اكتشفت أن هناك فروقا كبيرة، أولاً صفتي في بطاقة الهوية بعد سحب هويتي الأصلية.. جواز السفر، ووضعها لدى الصحيفة هي "موظف" بجريدة البيان، وليس صحفي في جريدة البيان..، وكلنا كذلك "موظفون"، وثانياً أن صفة المصرية أو اللبنانية أي الهوية الثقافية الأصلية تنحسر قليلاً في جانب منها لصالح أننا "وافدون" أو أجراء مجلوبون من بلادنا مقابل المال، وعلينا ألا نعبر بقوة عن هذه الهوية حتى "نتكيف" ونذوب في الصيغة الجديدة، وثالثاً أننا جميعاً لا نمتلك أي سند من القوة اللهم إلا إرضاء أصحاب العمل عنا-الذي لا نعرف على وجه التحديد مقدماته، وعلينا أن نجرب كل حسب طريقته ونمط سلوكه-وبالتالي نحن معرضون في أي لحظة "للتفنيش"، وهي الكلمة السائدة في كل دول الخليج تقريباً للتعبير عن إنهاء علاقة العمل-وهي تعريب لكلمة Finish بالإنجليزية والتي تعني ينهي أو نهاية.

في صالة التحرير لأول مرة استقبال فاتر من أحد الزملاء-أو الأصدقاء القدامى-على خلاف آخرين كانوا ودودين كما هو متوقع منهم، ولاحظت فيما بعد أن صاحب الاستقبال الفاتر أودعت سنوات الغربة في نفسه تجنباً دائماً لزملاء ورفقاء الماضي، حتى أنه أقام لفترة طويلة مع عمال هنود، ربما توفيراً للنفقات، وربما احتماء بخبرة الهنود في البقاء في الخليج لأزمنة طويلة، يقومون بدور الخدم بامتياز، طاعة عمياء وغباء -ظاهري-مطلق، شبهه أحدهم ذات مرة "بالروبوت"-الإنسان الآلي، يأتي في مواعيد منتظمة، يقضي ثماني ساعات كاملة يحرر أخبار وتقارير الوكالات دون أن يتفاعل مع أحد، وحكيت عنه نوادر كثيرة توحي بالاختلال العقلي أو النفسي منها أنه يقضي ساعات طويلة هائماً في المولات، ويقف مندهشاً أمام ميدالية أو ولاعة تضيء أو تصفر كلما مررت بيدك أمامها، اشترى واحدة منها، وكان كل ساعة أو ساعتين يفاجئ الجميع في صالة التحرير بعد أن يفتح درج مكتبه ويطرقع بإصبعيه ويقول ضاحكا "بتصفر يا ولاد.. بتصفر"!!

صديق آخر كان يخوض صراعا مع رئيسنا المباشر في العمل، وبلغة المكان –كان يشعر أنه على وشك "التفنيش"، استغل مجيئي –باعتباري وافد جديد جاهل بمعادلات المكان- وراح يدفعني دفعا للصدام مع رئيسه، ولم أدر إلا لاحقا أنه كان يزج بي في صدامه حتى يأخذ أنفاسه قليلا، ويستمر في المكان فترة أطول!! ولم لا.. فالحرص على البقاء في "الجنة الخليجية" أو قل عدم العودة بسرعة إلى الفقر في مصر محدد أساسي لسلوك كثيرين، على خلاف الشائع عن أن المصريين هم الأكثر ميلا للعودة، مقارنة باللبنانيين أو الفلسطينيين أو السوريين إلى آخره.

في شوارع المدن الصحراوية تبدو الأشجار كما لو كانت وافدة أيضا، أخذت من تربتها الأصلية لتزرع في بيئة مصنوعة، وعليها أن تتشبث بالتربة الرملية الجديدة وأن تتكيف حتى تحيا قدر الإمكان حتى لو كان التكيف يعني تغيير بنيتها البيولوجية، والبشر كذلك، يغيرون عاداتهم وبنيتهم النفسية وحتى أخلاقهم.. بعد أن عدت بعامين تقريبا فاجأني الصديق عمرو خفاجي بمعلومة غريبة، نقلا عن المدير العام السابق لمؤسسة الإمارات للإعلام، قال الرجل لعمرو أن زميلا لي كان يجلس معي ثم يتصل بين الحين والآخر عبر الموبايل ليسمع كلامي العفوي عن الصحيفة أو مشاكل العمل مباشرة إليه أو إلى آخرين!.. نعم ممكن، فالوضاعة أحيانا كنز لا يفنى!

خارج الدوام (مواعيد العمل الرسمي) الحياة في دبي وأبوظبي طرية وناعمة، وفي شهور الشتاء تصبح الأماكن المفتوحة جديرة بالاستمتاع بها، فطوال شهور الصيف لا يمكنك تحمل العرق والرطوبة الخانقة المزعجة، فتتنقل سريعا من مكيف السيارة إلى مكيف المنزل إلى مكيف الصحيفة فالمول إلى آخره، والنساء في مدن هي أقرب إلى معسكرات العمل "سياسة عليا"، بدونهن قد تحدث انفجارات لا تحمد عقباها، والوافدون –وهم أغلبية (العدد الإجمالي لسكان الإمارات –حسب معلوماتي قبل عامين تقريبا- كان نحو 3 ملايين نسمة، المواطنون منهم نحو 600 ألف نسمة مع المجاملة الشديدة) متوسط أعمارهم يتراوح بين العشرين والأربعين، وكثير منهم بلا زوجات، وينتمون لنحو 180 جنسية، وبالطبع تلزمهم نساء على شاكلتهم.. ذات مرة قالت لي صحفية بريطانية إن "الدعارة في لندن ليست على هذا النحو، لها آداب وسلوك منظم، ولا يحق للداعرة أن تتجول بمظهرها المعتاد في أي مكان كما يحدث هنا".

عزمني أحد الأصدقاء على الغداء في الأيام الأولى لقدومي إلى دبي حيث يسكن مع آخرين، فوجدت امرأتين تركيتين تتحدثان الإنجليزية بالمقلوب، وكذلك العربية.. صديقتين -للمكان على ما يبدو- تعدان الغداء، العلاقة هنا صداقة بريئة، لا تخلو أحيانا من مضاجعة بالرضا أو الفلوس.. سكان تلك الشقة كانوا مصريين ريفيين، مهندس مصور صحفي وقهوجي، أو شيئ من هذا القبيل، يقيمون معا من باب التوفير والونسة.. الصديق الذي عزمني واجه أزمتين، الأولى أنه شك في أنه أصيب بالإيدز، وسيطر عليه هذا الهاجس لفترة طويلة، والثانية أنه وقع في غرام "شرموطة" (ليست هنا شتيمة بل مهنة)، وكان عندما ينزل في إجازة إلى مصر يتصل بها هاتفيا (رغم تكلفة ذلك، ورغم بخله الشديد)، وظل مترددا في مسألة الزواج لسنوات بعد عودته إلى مصر، رغم توفر الشقة والإمكانيات المادية اللازمة!

0 Comments:

Post a Comment

<< Home