سائق الميكروباص رئيسا
سائق الميكروباص رئيسا
يتمتع سائق الميكروباص في أوطاننا بفرصة أن يكون رئيسا.. ليس استنادا إلى قواعد الديموقراطية العرجاء، وإنما استنادا إلى العوامل الصانعة للأمر الواقع.. فسائق الميكروباص أهدته الصدفة التاريخية سيارة كبيرة تسير على أربع، وركابا من عينة شعوب العالم الثالث أو بقايا شعوب الحضارات القديمة ممن يستسلمون سريعا للمقادير، تربطهم بالسائق مصلحة مشتركة قائمة على المقايضة البسيطة.. السائق يقود والركاب ينقادون مسافة ما، وليس هناك اتفاق مسبق حول مدة الرحلة أو عن التزام السائق قواعد المرور للوصول بالركاب سالمين.. لا توجد اتفاقات مسبقة معلنة؛ هناك اتفاقات صامتة.. صمتها يوحي بإمكانية نقضها (من قبل السائق طبعا فهو قائد المسيرة دون محاسبة أو مراجعة).
يتسلح السائق بشيء من الجرأة (أو قل الصفاقة) في تعامله مع الركاب، كأن يرفع صوت الكاسيت بصورة مبالغ فيها على أغنية قد لا تناسب كثيرا ذوق الركاب، أو واعظ من وعاظ التطرف يتحدث عن أمور لا تناسب بالمرة ركابا في طريق سفر مثل تكفين الموتى أو العلاقة الزوجية أو النكاح في الإسلام، فيتحلى الركاب بالصمت الرهيب لا يرفع أحدهم عقيرته مطالبا بتغيير الشريط.
الكلام عن سائق الميكروباص في نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد موصول بما كتبه قبل خمسين عاما تقريبا طه حسين في رسالة له عن ثورة يوليو (لم يعثر على الرسالة إلا حديثا ونشرتها شهرية "وجهات نظر") يقول فيها: "الثورة في نفسها خير لا شك فيه، وهي قد أراحت مصر، لا من فاروق فحسب بل من نظام الملكية السخيف، ولكن المصريين محدثون في الثورة يجهلون من أمورها كل شئ، وهم بعد لا يحبون احتمال المشقات، وإنما يريدون أن ينقلوا ما يكرهون إلى ما يحبون في غير جهد ولا عناء ولا تضحية، وهم يقولون كثيرا ولا يعملون شيئا، وهم عبء على حكامهم يتملقونهم بالقول ويثقلون عليهم بالعمل ويرهقونهم من أمرهم عسرا دائما، وأغرب ما فيهم أنهم يصدقون بألسنتهم كل ما يقول لهم الحكام ويكذبون بقلوبهم كل ما يقول لهم الحكماء أيضا، فهم راضون بألسنتهم، ساخطون بقلوبهم كأنهم خلقوا ليكونوا منافقين.. والخطر كل الخطر في أمرهم أنهم لا يريدون النفاق ولا يحبونه ولكنهم خلقوا ضعافا يصانعون الحكام في ظاهر أمرهم ليأمنوا بطشهم، ويعيبون الحكام فيما بينهم وبين أنفسهم ليرضوا ضمائرهم.. هم في حاجة إلى شئ من القوة.. قوة الخلق، وإلى شئ من الشجاعة ليلائموا بين ما يظهرون وما يضمرون، ويصارحوا حكامهم بما يريدون، ويومئذ تستقيم أمورهم كلها، ولست يائسا لأني لم أعرف اليأس قط، لست يائسا من أن هذا سيتحقق في يوم قريب أو بعيد".
وما قاله طه حسين موصول أيضا بما قاله جمال حمدان (وكذلك الذين استرشدوا برؤيته فيما بعد) عن أن الطبيعة النهرية (الفيضية) والتحكم في النهر يفرضان قانون انتخاب طبيعي مريض لا يسمح في الغالب بظهور شخصية متفردة وإنما يفتح المجال للشخصية الطيعة أو ما أسماه "الشخصية الرخوة"، تلك التي تختار النفاق وسيلة للصعود أو الهروب من سطوة الحكم، والسبب في ذلك كما أوضحه حمدان في دراسته التأسيسية عن الشخصية المصرية هو أن الطبيعة النهرية والتحكم في النهر يفرضان ارتباطا عضويا بين سلطة مركزية قوية واستقرار مصالح الأفراد؛ لذلك تصبح اللحظات التي يغيب فيها الحاكم (بالوفاة أو الاغتيال) من أكثر اللحظات ترقبا وقلقا على مستوى واسع، ويصبح انتقال الحكم لأي شخص كان باعثا على الاطمئنان في النفوس.
ولكن ما رآه طه حسين وجمال حمدان في زمن ما يواجه أسئلة نقدية قوية تطعن في رؤيتهما أو على الأقل تفتح الباب لمزيد من التأمل.. مثلا: أليست الحالة المصرية (العلاقة بين الحكام والمحكومين) موجودة وبكثافة في نطاقات جغرافية عربية لا صلة لها بثقافة النهر حيث يمكن استبدال المصريين في الاقتباس المأخوذ من رسالة طه حسين بأي من أبناء البلدان العربية الأخرى؟ ألم تشهد مصر تغيرات في العناصر الحاكمة للعلاقة بين المحكومين والحكام منذ ذلك التاريخ إلى اليوم؟ وألم تحدث في مصر (الزراعية النهرية) تحولات اقتصادية وتقنية أذابت شريحة الفلاحين الفقراء وجعلتها أقرب لمخلفات الماضي، حيث لم يعد المشتغلون بالفلاحة يشكلون غالبية المصريين؟ وإذا كان هناك من يرجع تلك "الحالة المصرية" إلى طول العهد بالاستعمار منذ الإسكندر وحتى الإنجليز فإنه يتجاوز الواقع لا شك، فمصر قد عرفت الاستقلال وعرفت الثورات والانتفاضات والعصيان السلمي حتى في عصورها السحيقة، بالإضافة إلى أن مصر لم تكن وحدها استثناء في الخضوع للاستعمار بل عاشت معها شعوب أخرى الهم نفسه، على الرغم من أن تلك الثورات والانتفاضات لم تكن في الوقت نفسه سوى حالات فوران عابرة، لم تترك أثرا ذا بال في التركيبة النفسية والثقافية للشخصية المصرية ولم تكن ملمحا بارزا لها.
فأين يكمن السر إذن؟
الحقيقة أن بنية ثقافية أوسع في منطقة "العالم القديم" جغرافيا وتاريخيا رسخت هذه الظاهرة الثقافية، فألوهية الحاكم لم تكن حكرا على مصر "النهرية" القديمة، بل كانت قاسما مشتركا لدى شعوب العراق والشام وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي، ولم تستطع الديانات السماوية الثلاث بما حملته من مفاهيم جديدة عن العدل والمساواة بين البشر إلى المنطقة نفسها أن تغير كثيرا في البنية الثقافية للشعوب، وربما ساهمت مفاهيمها عن القدرية والمشيئة الإلهية في مضاعفة الاستسلام لمشيئة الحاكم باعتبار مخالفة ولي الأمر مخالفة للخالق.
وعلى سبيل المثال.. لا يخلو التعريف الأكثر انتشارا للإسلام في الخطاب الديني العام باعتباره "استسلاما" أو "تسليما نهائيا" لمشيئة الخالق والطاعة المطلقة له من دلالة في هذا السياق، بما يعني أن مفهوم العبودية هو الأكثر استقرارا في نفسية المسلم إن كان يفهم الإسلام على هذا النحو فقط، وإذا مددنا الخط على استقامته ألا يمكن القول إن ذلك من شأنه خلق حالة من الاستعداد للتبعية والانسحاق أمام قوة الحاكم وجبروته وسطوته، أي أمام أي بديل أو ممثل لسلطة أعلى على الفرد المسلم؟!، وألا يجوز القول إن هذا المفهوم قد وجد تعزيزا كبيرا له بين ثلاث ثقافات حاكمة للسلوك –خاصة في أوساط التدين الشعبي- هي ثقافة الفقر والقهر والزحام التي تعتبر الأقوى تأثيرا والأكثر انتشارا بين الغالبية العظمى للشعب المصري والشعوب العربية أيضا مع الفارق في الدرجة بين مكان وآخر؟!.
صحيح أن الفقر قد يولد الطموح إلى الخلاص منه بالجهد والعمل من أجل تحقيق صعود اجتماعي، والقهر قد يخلق الرغبة في التمرد والمقاومة، والزحام قد يولد حالة من التوحد ضد الخصم، ولكن اجتماع العناصر الثلاثة معا ولزمن طويل يكون أقرب احتمالا لخلق حالة مزمنة من المسكنة والمذلة والنفاق، يبحث أصحابها في مفردات الخطاب الديني العام والثقافي الموروث من أمثال وحكم شعبية عما يبررها ويدعمها، وما يزيد الطين بلة إدراك القائمين على "صناعة الخطاب الديني الرسمي" لأهمية ما بين أيديهم من "ثروة سياسية" فيزيدون -جيلا بعد جيل- من جرعات تدجين شريحة "التدين الشعبي"، وبذلك يحافظ "صناع الخطاب الديني الرسمي" على بقائهم قريبين من معين السلطة غانمين مكاسبها ومخصصاتها.
وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن الإسلام ليس مسئولا على الإطلاق عن حالة الاستبداد والانحطاط السياسي في المنطقة، بل هو نسيج ثقافي عام ومفردات اتفاق اجتماعي يمكن توظيفها في تحقيق نهضة سياسية واجتماعية إذا حسنت الأهداف والأدوات، ويمكن استغلاله أسوأ استغلال إذا ما ساءت الأغراض والنوايا.
توصيف طه حسين لما رآه ولمسه في المصريين في الخمسينات مازال ينطبق عليهم في مطلع الألفية الثالثة، وينطبق على غيرهم من الأشقاء في الثقافة العربية والجوار الجغرافي، وتوصيف جمال حمدان لما اعتبره عناصر في بنية الشخصية القومية المصرية منذ نشأة الزراعة حول النيل مازال ينطبق عليهم إلى اليوم، ولا يرجع السبب إلى أبدية تأثير الجغرافيا على البشر، وإنما إلى تضافر عوامل جديدة تصب في الاتجاه نفسه، مثل:
ـ تضخم قدرة وآليات "الدولة" على قمع مواطنيها وتزييف وعيهم، استنادا لشرعيتها الثورية مرة أو شرعية الأمر الواقع، أو إدراكا منها لافتقادها الشرعية عموما.
ـ تغليب الاتباع والتقليد والنقل على الإبداع والابتكار وإعمال العقل خاصة في المؤسسات الدينية مما خلق في النهاية نمطا جامدا من الدين يخدم السلطة الرسمية لا غير ويسيطر على قطاع واسع من البشر.
ـ انسداد شرايين الحراك الاجتماعي والذي من شأنه خلق حيوية جديدة على يد المنتقلين صعودا إلى مراتب أعلى، وذلك نتيجة لاستتباب أمر حيازة الثروة في يد شرائح معينة جيلا بعد جيل، مما أورث من يرثون الفقر والبقاء على الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي نفس الخطاب القدري الاستسلامي للسلطة، وسمات الشخصية الرخوة المتعلقة بأهدابها، وساهم في فرز المزيد من المنافقين على حساب النقديين الإصلاحيين.
وبعد.. هل يمكن أن يجد تفاؤل طه حسين بإمكانية التغيير ما يبرره موضوعيا، بعيدا عن طبيعته كشخص "لا يعرف اليأس قط"؟... الحقيقة أنني أشك كثيرا في إمكانية تحول أي شعب يخشى حكامه ويتملقهم ظاهريا وهو يمقتهم سرا هكذا بين يوم وليلة لمجرد إدراكه نقيصته، وحتى لو غامرت نخبه الحاكمة في نوبة وعي أو صحوة ضمير لضرورة التغيير وأجرت انتخابات عبر صناديق زجاجية وضمانات نزاهة مطلقة، فسرعان ما ستفرض التركيبة المختلة للثقافة السائدة نفسها، وترتد العملية الديموقراطية على عقبيها، فالأساس ليس صندوق الاقتراع وإنما في الوعي الذاهب إليه، والذي يحتاج خلقه إلى عملية مركبة.. عملية لبناء المجتمع على أسس جديدة تماما، أي أن مطالبة كثيرين من المثقفين المصريين والعرب منذ قرابة نصف قرن من الزمان وحتى اليوم بديموقراطية "صندوق الانتخابات" والتعدد الحزبي وتصورهم أنه الحل الناجع والأمثل لمشاكل مجتمعاتهم لا تكفي وليست هي المطلب الأدق رغم بريقه وقدرته على تحقيق تغير نسبي، ولكن المطلب الأهم والأنجع هو الإصلاح الاجتماعي الشامل في ظل حرية كاملة.
يتمتع سائق الميكروباص في أوطاننا بفرصة أن يكون رئيسا.. ليس استنادا إلى قواعد الديموقراطية العرجاء، وإنما استنادا إلى العوامل الصانعة للأمر الواقع.. فسائق الميكروباص أهدته الصدفة التاريخية سيارة كبيرة تسير على أربع، وركابا من عينة شعوب العالم الثالث أو بقايا شعوب الحضارات القديمة ممن يستسلمون سريعا للمقادير، تربطهم بالسائق مصلحة مشتركة قائمة على المقايضة البسيطة.. السائق يقود والركاب ينقادون مسافة ما، وليس هناك اتفاق مسبق حول مدة الرحلة أو عن التزام السائق قواعد المرور للوصول بالركاب سالمين.. لا توجد اتفاقات مسبقة معلنة؛ هناك اتفاقات صامتة.. صمتها يوحي بإمكانية نقضها (من قبل السائق طبعا فهو قائد المسيرة دون محاسبة أو مراجعة).
يتسلح السائق بشيء من الجرأة (أو قل الصفاقة) في تعامله مع الركاب، كأن يرفع صوت الكاسيت بصورة مبالغ فيها على أغنية قد لا تناسب كثيرا ذوق الركاب، أو واعظ من وعاظ التطرف يتحدث عن أمور لا تناسب بالمرة ركابا في طريق سفر مثل تكفين الموتى أو العلاقة الزوجية أو النكاح في الإسلام، فيتحلى الركاب بالصمت الرهيب لا يرفع أحدهم عقيرته مطالبا بتغيير الشريط.
الكلام عن سائق الميكروباص في نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد موصول بما كتبه قبل خمسين عاما تقريبا طه حسين في رسالة له عن ثورة يوليو (لم يعثر على الرسالة إلا حديثا ونشرتها شهرية "وجهات نظر") يقول فيها: "الثورة في نفسها خير لا شك فيه، وهي قد أراحت مصر، لا من فاروق فحسب بل من نظام الملكية السخيف، ولكن المصريين محدثون في الثورة يجهلون من أمورها كل شئ، وهم بعد لا يحبون احتمال المشقات، وإنما يريدون أن ينقلوا ما يكرهون إلى ما يحبون في غير جهد ولا عناء ولا تضحية، وهم يقولون كثيرا ولا يعملون شيئا، وهم عبء على حكامهم يتملقونهم بالقول ويثقلون عليهم بالعمل ويرهقونهم من أمرهم عسرا دائما، وأغرب ما فيهم أنهم يصدقون بألسنتهم كل ما يقول لهم الحكام ويكذبون بقلوبهم كل ما يقول لهم الحكماء أيضا، فهم راضون بألسنتهم، ساخطون بقلوبهم كأنهم خلقوا ليكونوا منافقين.. والخطر كل الخطر في أمرهم أنهم لا يريدون النفاق ولا يحبونه ولكنهم خلقوا ضعافا يصانعون الحكام في ظاهر أمرهم ليأمنوا بطشهم، ويعيبون الحكام فيما بينهم وبين أنفسهم ليرضوا ضمائرهم.. هم في حاجة إلى شئ من القوة.. قوة الخلق، وإلى شئ من الشجاعة ليلائموا بين ما يظهرون وما يضمرون، ويصارحوا حكامهم بما يريدون، ويومئذ تستقيم أمورهم كلها، ولست يائسا لأني لم أعرف اليأس قط، لست يائسا من أن هذا سيتحقق في يوم قريب أو بعيد".
وما قاله طه حسين موصول أيضا بما قاله جمال حمدان (وكذلك الذين استرشدوا برؤيته فيما بعد) عن أن الطبيعة النهرية (الفيضية) والتحكم في النهر يفرضان قانون انتخاب طبيعي مريض لا يسمح في الغالب بظهور شخصية متفردة وإنما يفتح المجال للشخصية الطيعة أو ما أسماه "الشخصية الرخوة"، تلك التي تختار النفاق وسيلة للصعود أو الهروب من سطوة الحكم، والسبب في ذلك كما أوضحه حمدان في دراسته التأسيسية عن الشخصية المصرية هو أن الطبيعة النهرية والتحكم في النهر يفرضان ارتباطا عضويا بين سلطة مركزية قوية واستقرار مصالح الأفراد؛ لذلك تصبح اللحظات التي يغيب فيها الحاكم (بالوفاة أو الاغتيال) من أكثر اللحظات ترقبا وقلقا على مستوى واسع، ويصبح انتقال الحكم لأي شخص كان باعثا على الاطمئنان في النفوس.
ولكن ما رآه طه حسين وجمال حمدان في زمن ما يواجه أسئلة نقدية قوية تطعن في رؤيتهما أو على الأقل تفتح الباب لمزيد من التأمل.. مثلا: أليست الحالة المصرية (العلاقة بين الحكام والمحكومين) موجودة وبكثافة في نطاقات جغرافية عربية لا صلة لها بثقافة النهر حيث يمكن استبدال المصريين في الاقتباس المأخوذ من رسالة طه حسين بأي من أبناء البلدان العربية الأخرى؟ ألم تشهد مصر تغيرات في العناصر الحاكمة للعلاقة بين المحكومين والحكام منذ ذلك التاريخ إلى اليوم؟ وألم تحدث في مصر (الزراعية النهرية) تحولات اقتصادية وتقنية أذابت شريحة الفلاحين الفقراء وجعلتها أقرب لمخلفات الماضي، حيث لم يعد المشتغلون بالفلاحة يشكلون غالبية المصريين؟ وإذا كان هناك من يرجع تلك "الحالة المصرية" إلى طول العهد بالاستعمار منذ الإسكندر وحتى الإنجليز فإنه يتجاوز الواقع لا شك، فمصر قد عرفت الاستقلال وعرفت الثورات والانتفاضات والعصيان السلمي حتى في عصورها السحيقة، بالإضافة إلى أن مصر لم تكن وحدها استثناء في الخضوع للاستعمار بل عاشت معها شعوب أخرى الهم نفسه، على الرغم من أن تلك الثورات والانتفاضات لم تكن في الوقت نفسه سوى حالات فوران عابرة، لم تترك أثرا ذا بال في التركيبة النفسية والثقافية للشخصية المصرية ولم تكن ملمحا بارزا لها.
فأين يكمن السر إذن؟
الحقيقة أن بنية ثقافية أوسع في منطقة "العالم القديم" جغرافيا وتاريخيا رسخت هذه الظاهرة الثقافية، فألوهية الحاكم لم تكن حكرا على مصر "النهرية" القديمة، بل كانت قاسما مشتركا لدى شعوب العراق والشام وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي، ولم تستطع الديانات السماوية الثلاث بما حملته من مفاهيم جديدة عن العدل والمساواة بين البشر إلى المنطقة نفسها أن تغير كثيرا في البنية الثقافية للشعوب، وربما ساهمت مفاهيمها عن القدرية والمشيئة الإلهية في مضاعفة الاستسلام لمشيئة الحاكم باعتبار مخالفة ولي الأمر مخالفة للخالق.
وعلى سبيل المثال.. لا يخلو التعريف الأكثر انتشارا للإسلام في الخطاب الديني العام باعتباره "استسلاما" أو "تسليما نهائيا" لمشيئة الخالق والطاعة المطلقة له من دلالة في هذا السياق، بما يعني أن مفهوم العبودية هو الأكثر استقرارا في نفسية المسلم إن كان يفهم الإسلام على هذا النحو فقط، وإذا مددنا الخط على استقامته ألا يمكن القول إن ذلك من شأنه خلق حالة من الاستعداد للتبعية والانسحاق أمام قوة الحاكم وجبروته وسطوته، أي أمام أي بديل أو ممثل لسلطة أعلى على الفرد المسلم؟!، وألا يجوز القول إن هذا المفهوم قد وجد تعزيزا كبيرا له بين ثلاث ثقافات حاكمة للسلوك –خاصة في أوساط التدين الشعبي- هي ثقافة الفقر والقهر والزحام التي تعتبر الأقوى تأثيرا والأكثر انتشارا بين الغالبية العظمى للشعب المصري والشعوب العربية أيضا مع الفارق في الدرجة بين مكان وآخر؟!.
صحيح أن الفقر قد يولد الطموح إلى الخلاص منه بالجهد والعمل من أجل تحقيق صعود اجتماعي، والقهر قد يخلق الرغبة في التمرد والمقاومة، والزحام قد يولد حالة من التوحد ضد الخصم، ولكن اجتماع العناصر الثلاثة معا ولزمن طويل يكون أقرب احتمالا لخلق حالة مزمنة من المسكنة والمذلة والنفاق، يبحث أصحابها في مفردات الخطاب الديني العام والثقافي الموروث من أمثال وحكم شعبية عما يبررها ويدعمها، وما يزيد الطين بلة إدراك القائمين على "صناعة الخطاب الديني الرسمي" لأهمية ما بين أيديهم من "ثروة سياسية" فيزيدون -جيلا بعد جيل- من جرعات تدجين شريحة "التدين الشعبي"، وبذلك يحافظ "صناع الخطاب الديني الرسمي" على بقائهم قريبين من معين السلطة غانمين مكاسبها ومخصصاتها.
وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن الإسلام ليس مسئولا على الإطلاق عن حالة الاستبداد والانحطاط السياسي في المنطقة، بل هو نسيج ثقافي عام ومفردات اتفاق اجتماعي يمكن توظيفها في تحقيق نهضة سياسية واجتماعية إذا حسنت الأهداف والأدوات، ويمكن استغلاله أسوأ استغلال إذا ما ساءت الأغراض والنوايا.
توصيف طه حسين لما رآه ولمسه في المصريين في الخمسينات مازال ينطبق عليهم في مطلع الألفية الثالثة، وينطبق على غيرهم من الأشقاء في الثقافة العربية والجوار الجغرافي، وتوصيف جمال حمدان لما اعتبره عناصر في بنية الشخصية القومية المصرية منذ نشأة الزراعة حول النيل مازال ينطبق عليهم إلى اليوم، ولا يرجع السبب إلى أبدية تأثير الجغرافيا على البشر، وإنما إلى تضافر عوامل جديدة تصب في الاتجاه نفسه، مثل:
ـ تضخم قدرة وآليات "الدولة" على قمع مواطنيها وتزييف وعيهم، استنادا لشرعيتها الثورية مرة أو شرعية الأمر الواقع، أو إدراكا منها لافتقادها الشرعية عموما.
ـ تغليب الاتباع والتقليد والنقل على الإبداع والابتكار وإعمال العقل خاصة في المؤسسات الدينية مما خلق في النهاية نمطا جامدا من الدين يخدم السلطة الرسمية لا غير ويسيطر على قطاع واسع من البشر.
ـ انسداد شرايين الحراك الاجتماعي والذي من شأنه خلق حيوية جديدة على يد المنتقلين صعودا إلى مراتب أعلى، وذلك نتيجة لاستتباب أمر حيازة الثروة في يد شرائح معينة جيلا بعد جيل، مما أورث من يرثون الفقر والبقاء على الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي نفس الخطاب القدري الاستسلامي للسلطة، وسمات الشخصية الرخوة المتعلقة بأهدابها، وساهم في فرز المزيد من المنافقين على حساب النقديين الإصلاحيين.
وبعد.. هل يمكن أن يجد تفاؤل طه حسين بإمكانية التغيير ما يبرره موضوعيا، بعيدا عن طبيعته كشخص "لا يعرف اليأس قط"؟... الحقيقة أنني أشك كثيرا في إمكانية تحول أي شعب يخشى حكامه ويتملقهم ظاهريا وهو يمقتهم سرا هكذا بين يوم وليلة لمجرد إدراكه نقيصته، وحتى لو غامرت نخبه الحاكمة في نوبة وعي أو صحوة ضمير لضرورة التغيير وأجرت انتخابات عبر صناديق زجاجية وضمانات نزاهة مطلقة، فسرعان ما ستفرض التركيبة المختلة للثقافة السائدة نفسها، وترتد العملية الديموقراطية على عقبيها، فالأساس ليس صندوق الاقتراع وإنما في الوعي الذاهب إليه، والذي يحتاج خلقه إلى عملية مركبة.. عملية لبناء المجتمع على أسس جديدة تماما، أي أن مطالبة كثيرين من المثقفين المصريين والعرب منذ قرابة نصف قرن من الزمان وحتى اليوم بديموقراطية "صندوق الانتخابات" والتعدد الحزبي وتصورهم أنه الحل الناجع والأمثل لمشاكل مجتمعاتهم لا تكفي وليست هي المطلب الأدق رغم بريقه وقدرته على تحقيق تغير نسبي، ولكن المطلب الأهم والأنجع هو الإصلاح الاجتماعي الشامل في ظل حرية كاملة.
4 Comments:
صدقنى مفيش فايدة يااستاذ ايمن
ليه مفيش فايدة؟
اديك شايف التعديل الوزارى صاحب مستشفى يبقى وزير الصحة وصاحب شركة سياحة يبقى وزير السياحة وواحد نصاب يبقى وزير الثقافة وواحد تبع الست يبقى وزير الاعلام
لصراحة انت اللي غلطان
حد ينتظر من جزمة انها تغير رباطها؟؟؟؟؟؟؟؟
Post a Comment
<< Home