الظابط وكفاية والموت علي الأسفلت
مع كل الاحترام لعبد الرحمن الأبنودي وكل الاحتقار للظابط
أردد بين الحين والآخر مقاطع من قصيدة «الأحزان العادية» للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي التي كتبها عام 1995 بعد صدور قانون الصحافة الذي اشتهر باسم «قانون حبس الصحفيين»، وأستحضر نبرات صوته الأجش وروحه المتألقة الوثابة وهو يلقيها في نقابة الصحفيين وفي مناسبات وأماكن أخري مستجيباً لطلب الجمهور سماعها منه، واندهشت في سعادة حين وجدت مقطعاً شهيراً منها مسجلا علي موبايل صديق بينما كنا نتابع ما حدث لعدد من قيادات وشباب حركة «كفاية» الذين احتجزوا ومنعت مظاهرتهم في ميدان السيدة زينب ضد الغلاء في ذكري الانتفاضة الشعبية في 18 و19 يناير 1977، ومن بينهم د.عبد الوهاب المسيري (العالم المسن والمريض) وزوجته وآخرون.. ظلوا في سيارة الترحيلات ساعات، حائرة بهم من مكان إلي آخر، وفي النهاية تفتق ذهن أحدهم (أحد «الظباط» الكبار) عن فكرة تركهم فرادي في صحراء مصر الجديدة، وكان التكليف الشفوي لمنفذ المهمة أن ينزلهم واحداً واحداً في الصحراء ويترك مسافة كيلو متر ما بين الواحد والآخر، وبعد تفاوض مع «منفذ المهمة» اكتفي بتركهم علي الأسفلت في طريق صحراوي، ليواجهوا مصيرهم، أن يموتوا أو يعودوا، والحمد لله أنهم عادوا ليحكوا ما حدث.. تذكرت الأبنودي وهو يقول:
ولقيت نفسي محاصر تاني
وتحت الرجلين
قلت لنفسي: «وبعدين؟
راح تفضل كده لامتي يا غلبان
بتداري إيه؟/ إيه باقي تاني عشان تِبْقِي عليه؟/ وطنك.. متباع.. سرك.. متذاع/ الدنيا حويطة وانت بتاع!».../ ويهين المعني الظابط /ويدوس بالجزمة ع الحلم/ ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم/ ماذا تعني إن الكون يا يساعك يا يساعني/ رد يا جربان يا ابن الوسخة يا كلب/ أظنك هاتقول تاني الشعب/ وصفعني وتني علي بطني بالكعب.
هو نفس «الظابط» الذي أهان الأبنودي وأهان «المعني» في زمن عبد الناصر 1966- 1967، لكنه تطور.. أصبح أكثر صلفاً وغباء ووحشية، هل تتخيل أن تلقي برجل مسن ومريض أو تلقي بامرأة أو حتي شاب في مقتبل عمره وسط الصحراء ليواجه مصيره، يموت برداً أو جوعاً، تقتل مواطناً هكذا بمنتهي السهولة والقسوة، ولا اتهام ولا محاكمة، ولا ذنب أصلا؟.. هل تصبح شخصاً مؤتمناً علي تطبيق القانون؟.. أي ضمير يسمح لك بأن تنفذ أمراً شفوياً من «ظابط كبير» جبان، لتتحمل مسئولية قتل إنسان بهذه الطريقة البشعة؟.. وأي ثمن ستحصل عليه، ترقية! جنيهات ملطخة بالدم؟.. كيف ستعود مساء إلي أسرتك تجلس بين أولادك، تحكي لهم عن عملك المحترم، عن وظيفتك «الإنسانية»؟.. كيف ستتذكر القسم الذي أقسمته عندما تخرجت في كليتك شابا عن «حماية الوطن وأمنه وشرفه»، عن أي شرف ستحدث نفسك؟.. تذكرت الأبنودي ثانية وهو يرد علي «الظابط» الذي يوجه له اتهاما، وتذكرت أنه كانت هناك اتهامات، وليس بلطجة وقتلاً مع سبق الإصرار والترصد، دون اتهام أو محاكمة، ودون خوف من تبعات الجريمة العلنية التي بدأت في وضح النهار، اختطاف واحتجاز ثم مصير مجهول! يقول الأبنودي للظابط الذي يحقق معه بعد موته:
يا عم الظابط إنت كداب/ واللي بعتك كداب/ مش بالذل حشوفكم غير/ أو استرجي منكم خير/ إنتو كلاب الحاكم وإحنا الطير/ إنتو التوقيف وإحنا السير/ إنتوا لصوص القوت /وإحنا بنبني بيوت/ إحنا الصوت.. ساعة متحبوا الدنيا سكوت/ إحنا شعبين شعبين شعبين/ شوف الأول فين.. والتاني فين/ وادي الخط ما بين الاتنين.. بيفوت
إنتوا بعتوا الأرض بفاسها.. بناسها/في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها/ بانت وش وضهر.. بطن وصدر/ماتت.. والريحة سبقت طلعة أنفاسها/ وإحنا ولاد الكلب الشعب/إحنا بتوع الأصعب وطريقه الصعب/والضرب ببوز الجزمة وبسٍن الكعب/ والموت في الحرب/لكن إنتوا خلقكم سيد المُلك/ جاهزين للمُلك/ إيدكم نعمت من طول ما بتفتل وبتفتل.. ليالينا الحلك/ إحنا الهلك.. وإنتو الترك.
لا أفهم كيف يواصل «الظابط» حتي الآن ذلك الدور القذر، يضرب مواطنيه ويعتقلهم ويكاد يقتلهم، وهناك من يقتلهم بالفعل تعذيباً في السجون والأقسام.. من تحمي أيها «الظابط» وأنت تعرف كما يعرف الأبنودي أن «وطنك متباع»، وأن آخرين يسرقونه يوميا، وأنت لست غريباً عنا، أنت تتابع مثلنا أخبار الفساد والنهب والأسعار، وتعاني أيضا براتبك الهزيل مثلنا، وتعلم جيدا صدق الذين ضاقت بهم الدنيا من العمال والموظفين والفلاحين فخرجوا لا يحملون معهم إلا حياتهم، ولا يملكون إلا صوتهم، يتظاهرون ويحتجون من أجل البقاء أحياء، من أجل العدل ومن أجل شروط حياة كريمة مقبولة؟.
لا أفهم كيف لا يدرك «الظابط» الآن أننا نعيش المشهد الأخير في عهد لن يأسف عليه أحد إلا المليارديرات الذين تحلقوا حول السلطة، فمن شهد جنازة عبد الناصر -بكل أخطائه- أو حتي سمع عنها، وقارن بينها وبين جنازة السادات بعد حادث المنصة الشهير، لابد أن يستشرف المشهد الختامي لهذا العهد، الناس ودعت عبد الناصر بالدموع والأسي وشعور حقيقي بالافتقاد، وودعت السادات دون شعور بالوحشة، فالأول انحاز لهم والثاني نسيهم تقريباً.. أما عهدنا الحالي فاحتقر احتياجاتهم ومطالبهم، أو عجز تماماً عن تلبيتها، واعتبرهم أحياناً كثيرة عبئا عليه فبادلوه نفس الشعور.
وأخيراً لا أفهم كيف يجازف «الظابط» بمصيره، وهو يعلم الآن أن «الجرائم ضد الإنسانية» لا تسقط بالتقادم، وأن المحاكمات والعقاب وارد ومحتمل جداً بعد أن ينزل الستار علي نهاية هذا العهد، ويغيب من حدثه عبر الهاتف، يعطيه أمراً شفوياً بالقتل أو الضرب في المليان، سيختفي «ذلك الآمر» ولن يحمي أحداً، وربما سيعجز عن أن يحمي نفسه، ويبحث عن مكان ما يخبئ نفسه فيه.
فهل سيدرك «الظابط» مصيبته ومصيبتنا.. يدرك أننا شركاء في الهم والوطن، وأن الكارثة إن حلت ستطيح بكل شيء، فيغير سلوكه ويعود بشراً طبيعياً.. أم يظل كما هو حسب وصف الأبنودي «ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم»، يواصل عمله كأداة للقمع في يد آخرين يجنون هم ثمرته ويتركونه «مجرماً» أمام نفسه وأمام الجميع حتي تصبح البدلة والنجوم والنسور علي الكتف عنواناً لأي شيء آخر غير أداء الواجب والتزام شرف المهنة وتطبيق القانون؟ فلا يحسن تقدير الخطر القادم في نبوءة الأبنودي عن جيل جديد يدرك جيداً أين تكمن قوته وأين يسكن ضعفه، فيخلع قيد الخوف من صدره وعقله، ولا يخشي السجن أو الموت، فيجرد «الظابط» من سلاحه الوحيد الذي يحكم به قبضته علي «الأمن»:
يا عم الظابط احبسني/سففني الحنضل واتعسني/ رأينا خلف خلاف/ احبسني أو أطلقني وادهسني/ رأينا خلف خلاف/وإذا كنت لوحدي دلوقت/ بكره مع الوقت/ حتزور الزنزانة دي أجيال /وأكيد فيه جيل/ أوصافه غير نفس الأوصاف/ إن شاف يوعي /وإن وعي ما يخاف/ إنتو الخونة لو يصدق ظني/ خد مفاتيح سجنك واترك لي وطني/ وطني غير وطنك/ ومشّي/ قلت لنفسي/ما خدمك إلا من سجنك
أرابيسك- أيمن شرف- الدستور يناير 2007
0 Comments:
Post a Comment
<< Home