صبيانية الحضارات في إهانة الرسول
عندما يثور اللغط حول قضية معينة، ويدخل على الخط الأيديولوجيون والمتعصبون –علمانيا ودينيا على حد سواء- وتتحكم دوافع سياسية في اتخاذ مواقف ملتبسة، تصبح محاولة التوقف عند الحقائق صعبة أحيانا لكنها ضرورية لا شك.
الأمثلة كثيرة.. الدبلوماسيون الأوروبيون –الذين يعالجون القضية من جانبها السياسي في الغالب- منقسمون، وكما قال أحدهم في تركيا قبل أيام قليلة "الدبلوماسيون في أوروبا يرونها قضية حول حرية التعبير، بينما يراها الدبلوماسيون في الدول الإسلامية مثيرة للغضب". وأشار إلى رسالة من سفارة بلاده في القاهرة تقول: "إننا لا نستطيع تخفيف الموقف. حرية الرأي وحرية التعبير ليست شيئا يمكننا ترويجه هنا إذا كان الأمر يتعلق بنزاع مع الإسلام".
ويتشابه موقف صحف أمريكية –وأخرى بريطانية- من بينها صحف رصينة بالفعل مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وغيرهما، التي ارتأت ألا تعيد نشر الرسوم على أساس أنها ستمثل مخالفة، وحتى شبكة سي.إن.إن التي موهت الرسوم أثناء عرضها تقريرا عن إعادة نشر صحيفتين في نيوزيلندا للرسوم، مع موقف الإدارة الأمريكية –مع اختلاف في الدافع بالطبع-، حيث لا تريد الإدارة مزيدا من صب الزيت على نار كراهيتها المشتعلة أصلا في العالم العربي.
من جانب آخر يواصل المغالون في العلمانية تصوير الأمر على طريقتهم.. هم يريدون "ممارسة حريتهم كاملة، ولا يريدون أن تقيدهم أقلية مسلمة مقيمة في بلادهم ولا حتى تابوهات إسلامية في الخارج، بل ويريدون أن يتأقلم المسلمون أو يتخففوا من "أصوليتهم" في التعامل مع نبيهم"، ويحتجون بأنه "لا يوجد في القرآن ما يحرم رسم صورة للنبي"، وكأن ما حدث هو مجرد رسم صورة فوتوغرافية للنبي!
وهناك من يتحدث عن حق القراء الذين يروادهم الفضول لمعرفة سبب الضجة، كما قال ماتيو باريس في تايمز البريطانية، ويعارض رفض صحيفته إعادة نشر الرسوم، على الرغم من أنها "لم تكن تستحق النشر من قبل بسبب طابعها الاستفزازي وقيمتها الفنية الضعيفة، إلا أنها الآن باتت تستحق النشر، لأن القراء يراودهم الفضول لمعرفة سبب الضجة القائمة.. لا ينبغي أن نسمح لمجموعة معينة بتحديد الطريقة التي نتعامل بها معها".
في المقابل يطلق متعصبون العنان لردود الفعل الغاضبة.. القيادي الإسلامي المتشدد عمر بكري الذي كان يقيم في بريطانيا حتى وقت قريب أصدر فتوى بإهدار دم المذيعين ورؤساء تحرير الصحف الذين نشروا الرسوم وعلى رأسهم مدير تحرير الصحيفة الدنماركية، وهدد أنصاره في بريطانيا بشن هجمات مماثلة للهجمات التي شهدتها لندن في 7 يوليو الماضي، بينما اعتبر رجل دين متشدد في النرويج أن نشر الرسوم "إعلان للحرب".
والحقيقة أن ما يحدث ليس قضية مواجهة بين الإسلام والعلمانية، وليس صراع حضارات، بل إن وصفه الأفضل هو "صبيانية الحضارات"، كما أشار روبرت فيسك قبل أيام في الإندبندنت البريطانية.
والسؤال المحوري هو لماذا يصر أوروبيون –غربيون على نشر رسوم للرسول ولماذا يرفض المسلمون؟-وبغض النظر عن وجود نصوص قاطعة الدلالة تحرم تصوير النبي من عدمه، وبغض النظر عن أن رسوما سابقة –وحتى أفلام سينمائية ورسوم متحركة- لم تكن تحمل معنى الإساءة لم تثر هذا الغضب الحالي لدى المسلمين.
هناك فارق جوهري بين رؤية المسلمين للرسول وللأنبياء عموما، ورؤية الغربيين –بافتراض مسيحيتهم- للمسيح ولغيره من الأنبياء.. النبي لدى المسلمين رجل اصطفاه الله لتلقي الوحي، أما الأنبياء في الغرب –تقريبا- فهم شخصيات تاريخية، يمكن مع درجة من الغلو العلماني تصويرها كشخصيات كرتونية، بل والسخرية منها.. والمسلمون أكثر قربا من دينهم، وربما أنهم في تقديرهم للمسيح أكثر قربا من المسيحية عن كثيرين في الغرب، بينما تواجه الكنائس –وخصوصا الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا تراجعا في ارتباط الفرد بها، وتشهد المجتمعات الأوروبية عموما ابتعادا نسبيا عن الحالة الدينية.. المسلمون حافظوا على إيمانهم لأسباب مختلفة، وكثير من الأوروبيين فقدوا إيمانهم، وهذا ما يجعلهم يتحدثون عادة عن "الغرب في مواجهة الإسلام" وليس عن "المسيحية في مواجهة الإسلام"، فهي في جوهرها -حتى لو كانت غربية الطابع وليست شرقيته- ليست في عداء أو مواجهة مع الإسلام.
أما عن الادعاء بحرية الصحافة المطلقة، وعن قانون الديموقراطية في صيغته المبالغة "ألا تفرض أقلية مفاهيمها على الأغلبية"، بما قد يعني استبداد "أغلبية علمانية –في الغرب- بحقوق أقلية دينية" وعن حرية التعبير للفرد -في صيغته المبالغة أيضا- في الغرب، والتي تسمح على سبيل المثال بإساءة تقييم "للشذوذ الجنسي باعتباره انحرافا نفسيا في كثير من الأحيان" لتحوله إلى حق فردي مطلق، مخالفة بذلك قواعد العلم الذي هو ركن أساسي في الحضارة الغربية، كل تلك الادعاءات موضع شك كبير، فلو أن الصور تحمل رسما لحاخام يهودي يرتدي قبعة في شكل قنبلة لقامت الدنيا ولم تقعد ولاندفعت كتابات عن معاداة للسامية، ولما احتاج الإسرائيليون لتنظيم مقاطعة للبضائع الدنماركية حتى يعتذر رئيس وزرائها، ولامتنع هو نفسه عن استخدام ذريعة "حرية الصحافة وحرية التعبير والديموقراطية.
ولا شك أيضا أن "صبيانية الحضارات" أو نزق ممارسة الحرية على حساب آخرين في مكان ما في العالم مرتبطة بالسياق السياسي والإعلامي حاليا، ما بعد 11 سبتمبر و7 يوليو وغيرهما من تواريخ الأحداث المأساوية، التي تشير في جانب منها إلى خلل في إدارة العلاقات بين الأمم، وممارسة القوة والظلم على أفراد ومجتمعات إسلامية، حتى يصبح نمط مقاومتها للغرب الاستعماري –سابقا- المهيمن اقتصاديا وسياسيا لاحقا، هو الأكثر وحشية وتجاوزا لأعراف الصراعات والحروب، هذا السياق السياسي والإعلامي هو الذي سمح بنزق صحيفة في مكان منزو من العالم لتثير كل هذا الضجيج.
ويبدو أن حسم القضية بمنع تكرار إهانة نبي المسلمين أو المسلمين أنفسهم لن يتأتى في الغالب إلا في سياق سياسي إعلامي أيضا، بممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية، والأمر لا شك يحتاج إلى جهد منظم لمتابعة جميع الانتهاكات شبه اليومية لحقوق المسلمين والعرب في وسائل الإعلام والصحف الغربية والكتب والمنشورات والأفلام السينمائية وألعاب الأطفال، على نفس النحو الذي تنتهجه الجماعات اليهودية، والتي تسلط سيفها على المنتهكين استنادا إلى قوانين ومفاهيم حقوق الإنسان والأقليات في بلدانهم، وليس مجرد إجراء حوار أديان مع رجال اللاهوت هنا أو هناك، للخروج بتصريحات متواضعة لا تغير شيئا.