Wednesday, January 17, 2007

خواطر حول مشهد إعدام صدام

مات صدام حسين.. اختفت الصورة الحية من شاشات التليفزيونات العربية لشخص يعاند الواقع.. يرفض حقيقة هزيمة "نظامه"، ذلك الحل التاريخي للعراق متعدد المذاهب والأعراق، حل القمع اللامتناهي للتباينات بين البشر وصبهم في قالب واحد عروبي قومي، أو بالأحرى قالب واحد من تركيبة شخصية تؤمن بالدولة إلها جديدا، وتخشى ذلك المطلق الجديد المدعو رئيس الجمهورية، تخشى وشاية صديق أو أخ أو رفيق درب تفضي في النهاية إلى موت أو غياب محقق وراء أسوار السجون الموحشة.
اختفت صورة ذلك الفرد الضعيف المجبر على الحضور أمام الكاميرا والجلوس وسط قاعة ما يرفض حقيقة وجود عسكر جاءوا من مسافات بعيدة، يحملون بنادق ويوجهون صواريخ من بعد، يقدمون –دون وعي دقيق ربما بطبيعة ما يفعلونه على مستوى التاريخ البشري- نمطا وضيعا أخلاقيا للإنسان، نمطا جديدا من القتل عن بعد، دون أدنى إحساس بالمسئولية، أو حتى الإحساس بشرف مهمة وهمية.
ضاعت صورة البطل المهزوم المغلوب على أمره، واستبدلت بصورة الشهيد من جانب أو صورة من اقتص منه من جانب آخر، تحققت للسنة اعتبارات الشهادة في أحد أبطالهم، وتحققت للشيعة – ربما للمرة الأولى في تاريخهم القديم من التضحيات دونما انتقام- حالة من القصاص والزهو بالقوة.
الآن يستطيع "واهمون" أن يفتعلوا "حربا انتقامية" للإمام الشهيد الحسين! (ذلك الذي كان –للمفارقة- عربيا أصيلا ولم يكن أبدا شيعيا أو فارسيا).
والآن يستطيع آخرون من أصحاب أغراض سياسية صرفة أن يعزفوا ذلك اللحن القذر عن "الصراع التاريخي" بين الشيعة والسنة، وأن يدعوا أنهم "حماة السنة الشريفة" ويقدموا لسنة العراق وشيعتها مبررات لمواصلة الاقتتال الدامي، وهم في حقيقة الأمر يختلقون ذريعة لإبقاء أنظمتهم حية زمنا آخر.
والآن يستطيع آخرون "في وادي النيل" أن يهربوا إلى الأمام من مشاكلهم السياسية المزمنة بخلق عدو وهمي اسمه "الشيعة".
ويستطيع المحتلون في أرض في فلسطين أن يغذوا "ملهاة" جديدة لتقسيم أعدائهم، بل والتحالف مع بعضهم –ربما سرا- في مواجهة قوس قزح الشيعي!
ثم ماذا بعد في مخيلة ذلك العربي المقيم في تلك المنطقة الممتدة بين الخليج والمحيط، الناطق بتنويعات من لغة واحدة هي العربية، ذلك الذي يحمل تراثا قديما من عالم قديم محمل بالميتافيزيقا والصوفية والقدرية، والمشبع بقيم الشموخ والكرامة وحب الوطن ورفض الغريب المتعالي ورحابة الصدر والتسامح تجاه الغريب المسالم، ماذا يفعل تجاه تلك المشاعر المتناقضة بين الخلاص من نظام أو شخص مستبد – قاتل بدماء باردة أحيانا- وبين إهانة الكرامة وشرخ الرمز الصوري للدولة –الوطن.
قد تكون لحظة قتل صدام مهانا على مشنقة صبيحة عيد الأضحى مزعجة لرفاقه ونظرائه في بلاد أخرى، لكنها أشد وطأة على سكان بلادنهم، "فالآلهة الجدد" لم يعودوا يتمتعون بحصانة ضد الإهانة والقتل.. الرمز الصوري أصبح مستباحا على يد الأغراب الجدد الذين يقتلون عن بعد. أصبح ذلك البعيد "جورج بوش" إلها مكروها جديدا، وكأنه "ست" إله الشر عند المصريين القدماء، أو "الشيطان" المعاصر في الأدبيات الحديثة، تخافه وتكرهه، لكنك أبدا لا تمتلك قوة مقابلة له.
مات صدام حسين وماتت معه أسطورة البطل القمعي، ذلك الذي تحبه وتكرهه في آن واحد، قبله مات عبد الناصر مهزوما (والذي لم يكن أبدا دمويا أو مغامرا عنيدا كصدام)، لكنه لم يقتل جهارا نهارا على يد خصومه- أعدائه، قتلته صدفة الموت الحتمية، قتل معنويا بهزيمة 1967، لكنه مات طبيعيا في 1971، فخرجت الناس في حشود ألفية وعفوية في مصر تنعيه، وحزن الملايين في العالم العربي، أما صدام فلم يخرج أحد، اكتفى الناس بالغصة في حلوقهم، غصة الهزيمة النكراء في ساحة محكمة إذلال وصلب معنوي لرمزهم المتناقض مع نفسه ومعهم.