Wednesday, June 07, 2006

الديموقراطية قادمة حتى لو غاب بوش



هل تتراجع أميركا عن "سياسة نشر الديمقراطية" في العالم العربي بعد أن ظهر جليا أن "الانتخابات" تأتي بالإسلاميين إلى السلطة أو تسمح لهم بمساحة أكبر من الحركة العلنية؟ سؤال يتردد كثيرا في أذهان دعاة الديموقراطية في العالم العربي الذين يدركون جيدا أن الدعم الخارجي – أو قل الضغط الخارجي- له دور حاسم في زحزحزة الأنظمة الحالية عن استئثارها بالسلطة والسيطرة على كل منافذ الحياة السياسية.


الأمر يحتاج إلى تأمل.. أولا؛ إنّ التوجه الأميركي والغربي عموما نحو توسيع الممارسة الديمقراطية ليس جديدا، صحيح أنه اكتسب زخما أكبر مع إدارة بوش الجمهورية والتي جعلته خيارا مركزيا في استراتيجيتها المعلنة "من أجل مكافحة الإرهاب" بعد إدراكها أن الاستبداد فاعل أول في تكوين وانتشار الأيديولوجيا الإسلامية المتشددة إثر هجمات 11 سبتمبر، لكن التحول – الشكلي نسبيا- في بعض دول الخليج – على سبيل المثال- باتجاه إقامة مجالس شورى هو نتاج نصائح غربية للقائمين على الحكم فيها، حتى وإن كان يهدف كما يرى البعض إلى إعطائها شرعية جديدة.


ثانيا؛ إنّ الدفع باتجاه الديمقراطية في واقع الأمر لا يقتصر فقط على الإدارة الأميركية الحالية، بل يمتد إلى منظومة واسعة من المؤسسات الحقوقية الغربية حكومية أو غير حكومية، كمنظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية الراعية للتنمية السياسية والاجتماعية في العالم الثالث، التي ساهمت منذ أكثر من عشرين عاما في إنشاء وتنشيط حركة مجتمع مدني في العالم العربي. ويمتد ذلك الدفع أيضا إلى تطور آخر – لا يد للسياسيين فيه- هو كثافة التواصل بين المجتمعات عبر الإنترنت والفضائيات التي تملأ العشرات والمئات منها الأثير العربي الآن بألوان من الموضوعات والتغطيات التي تناصر حقوق الفرد في الحرية والمواطنة وتنتقد التسلط والاستبداد والاستئثار بأدوات الحكم.


ثالثا؛ إنّ أنظمة صنع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا أيضا تتمتع بالمرونة والابتكار في أدوات نحقيق أهدافها، وعندما تصطدم بعقبة "فوز الإسلاميين" الذين تعتبرهم خصوما وخطرا على سياساتها إذا ما وصلوا إلى السلطة، فإنها تبحث عن بدائل وخصوصا أنها تطمح إلى خطط بعيدة المدى، فيتجه تفكيرها إلى "صنع" و"دعم نشوء" حركات سياسية ليبرالية يمكنها أن تحل محل الأنظمة المستبدة وتحافظ في نفس الوقت على سياسات الدول المتحالفة معها حاليا.
والأدبيات السياسية المتعلقة بالتخطيط للمستقبل في المنطقة العربية حافلة بكلام عن فتح المجنمعات العربية عبر تفعيل أدوات – غير الانتخابات- كحرية الصحافة واستقلال القضاء وتمكين المرأة وإقرار حكم القانون ومحاربة الفساد ولحترام حقوق الإنسان، بما يصب في النهاية في بروز أشكال سياسية -غير إسلامية- تصلح بديلا.


وبغض النظر عن الشكوك العربية في براجماتية "سياسة نشر الديمقراطية" الأميركية الأوروبية في العالم العربي – وهي صحيحة في جانب كبير منها، نظرا لارتباط تلك البراجماتية بتغيير أنظمة سياسية تعتبرها أميركا معادية أو غير متوافقة مع سياساتها ومناوئة لها– كما هو الحال مع إيران وسورية وحماس مثلا.. بغض النظر عن تلك الشكوك أو مع وضعها في الاعتبار بحيث لا تتماهى جهود النخب العربية الساعية إلى الحرية وتحسين نمط الحكم في بلادها مع أجندة سياسية غريبة ضيقة الأفق.


لا ينبغي التمترس ضد سياسة نشر الديمقراطية بحجج أصبحت في الحقيقة شكلية وتصب أحيانا في خانة الأنظمة الاستبدادية، بل ينبغي التعامل ببراجماتية أيضا مع تلك السياسة وصولا إلى الأهداف النبيلة للنخب العربية الساعية إلى الحرية، فمن المحتمل بدرجة كبيرة ألا ينتهي نشر الديمقراطية بتجزئة المنطقة العربية أو بمزيد من الهيمنة الغربية والإسرائيلية على العالم العربي، بالعكس .. المحتمل بدرجة أكبر هو أن تصبح أنظمة الحكم العربية أكثر رشدا في إدارة علاقتها مع أميركا والغرب وإسرائيل إذا أضافت حرية شعوبها إلى رصيدها في مواجهة الخارج وإذا عبرت التوجهات الحقيقية للشعوب عن ذاتها في سياسة دولها خارجيا وداخليا.

* نشر المقال تحت عنوان "مستقبل الديمقراطية" في الغد الأردنية بتاريخ 8/6/2006

Tuesday, June 06, 2006

الصحف الأجنبية تتوقع: صيف ساخن جدا في مصر


ـ قضية الأبراشي بسبب موقف صوت الأمة من توريث الحكم
ـ الوجود الأمني الكثيف إشارة مؤكدة على أن النظام يعيش في حالة من الذعر
ـ آخر نكت النظام: سفارتنا في لندن تعتذر للبي.بي.سي عن ضرب صحفي مصري في القاهرة ولا ترد وزارة الداخلية على نقابة الصحفيين المصريين بكلمة
ـ كلمة سر المعارضة المصرية بكل أطيافها "لا توريث لجمال"
ـ المعارضة في الواقع حركة موجهة ضد جمال مبارك - ولي عهد وادي النيل الذي يعد نفسه للمنصب بالزيوت العطرية على طريقة الكهنة في مصر القديمة
ـ قوات أمن دولة مبارك تحاول سد الثغرات في جدار الخوف
ـ عامة الناس وقعوا في حب القضاة
ـ رجل أعمال هندي يرشح عمرو موسى لتولي الرئاسة.. وصحيفة أمريكية تتوقع سيناريوهات إسلامية سريعة

***

ثم ماذا بعد؟ الإدارة الأمريكية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن النظام أهم بالنسبة لها ولو على المدى القريب، والنظام أكد أنه ليس مستعدا لتقديم أي تنازلات للمطالبين بالإصلاح، وأطلق عصاه في الشوارع، ولديه تصور واحد هو استخدام أداة الأمن في جمع المعارضين –وهم ليسوا كثيرين- لفترة مؤقتة يمكنه فيها ترتيب انتقال السلطة، والقضاء على الوجود "السياسي" العلني للإخوان، إما بانتخابات جديدة أو بالضغط أكثر على منافذهم المالية وحركتهم السلمية في المجتمع، أما أولئك الليبراليين واليساريين والقوميين فيمكنه أن يلقي لبعضهم بحزب أو جريدة هنا أو هناك، و"من لا يؤيه حزب أو جريدة يؤيه أبو زعبل" (السجن لا المصنع طبعا)، هكذا يرتاح الرئيس ورجاله قليلا للفترة القادمة.

ولكن هذا التصور يفترض أن من الممكن أن تعيد رصاصة انطلقت من بندقيتها إلى نقطة الصفر، أنت فقط تستطيع أن تتجنبها –لو كنت تتحرك بسرعة الضوء- أو تمنع إطلاقها من البداية لو كنت تعرف مقدما بها، ولكنها مادامت قد انطلقت أصبح لزاما عليك أن تدرك آثارها.. من المستحيل تقريبا وقف آثار ما سمته صحف أجنبية "انتفاضة النخبة المصرية"، حتى لو انتصر النظام بأداته الأمنية على المدى القريب.. الرصاصة انطلقت..

***

ولنبدأ بالأحدث، بشكوى البي.بي.سي من ضباط وزير الداخلية إلى وزير الداخلية نفسه..

تحت عنوان "بي.بي.سي" تشكو من الاعتداء على صحفييها في مصر" (2 يونيو) كتبت جوليا داي في الجارديان أن هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي" قدمت شكوى رسمية إلى السلطات المصرية بسبب اعتداء أفراد من أجهزة الأمن المصرية على أربعة صحفيين - اثنان منهما يعملان لديها.

ووجه الشكوى جيري تيمنز رئيس قطاع الشرق الأوسط وأفريقيا في "البي.بي.سي" إلى وزير الداخلية المصري حبيب العادلي مطالبا بالتحقيق في الحادث وضمان "استمرار النشاط الصحفي المشروع" للبي.بي.سي في البلاد.

وكتب تيمنز في الشكوى أن "البي.بي.سي كانت تشعر بالترحاب في مصر خلال العقود الماضية ونحن نثمن وجودنا فيها والعلاقات التي أقمناها في بلدكم. ووقوع حوادث مثل هذه الاعتداءات الأخيرة لا يتوافق مع هذه الخلفية ونحن نشعر بالقلق من مستوى العداء الذي واجهه به بعض صحفيينا مؤخرا.. وأود تأكيدا منك على أنك ستجري تحقيقا في الحادث الأخير وأن "البي.بي.سي" تحظى بدعمكم في مواصلة عملها الصحفي المشروع".

وقد وقع الحادث يوم 25 مايو عقب اجتماع للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين الذي كانت فريق البي.بي.سي يقوم بتغطيته "على مرأى من رجال الأمن المصريين بملابسهم الرسمية لكنهم لم يتدخلوا لإيقافه".

وبعد الاجتماع كان صحفيو البي.بي.سي دينا سمك -الحامل في شهرها السادس حاليا- ودينا جميل في سيارة تغادران جراج النقابة وبصحبتهما جيهان شعبان الصحفية بصحيفة أسبوعية، وكريم الشاعر المتدرب، فسدت سيارة أجرة طريقهم ونزل منها نحو خمسة رجال أحاطوا بسيارة الصحفيين. وجاء أكثر من 10 رجال من جانبي الشارع وبدأوا في الاعتداء بتكسير الزجاج الأمامي والجانبي، وحاولوا إخراج دينا سمك من السيارة وتمكنوا من الإمساك بجيهان شعبان وأخذوا كريم الشاعر من السيارة، وضربوه في الشارع ووضعوه في سيارة شرطة. ومازال معتقلا، ودفع وصول بعض القضاة والصحفيين إلى موقع الحادث إلى تفرق من قاموا بالاعتداء الذي حدث على مرأى ومسمع ضباط جهاز الأمن النظاميين الذين لم يتدخلوا على الإطلاق، وذهب الصحفيون لتقديم شكوى في مركز شرطة معروف وانتظروا أكثر من ساعتين وبعدها رفض العاملون بالقسم تسجيل شكواهم.

ويأتي هذا الاعتداء عقب هجوم أحد أفراد أجهزة الأمن السري على الصحفي محمد طه الذي يعمل لدى البي.بي.سي في نوفمبر الماضي، وفي ذلك الحادث تلقت هيئة الإذاعة البريطانية اعتذارا من السفير المصري في بريطانيا جهاد ماضي.

وسينظم اتحاد الصحفيين البريطانيين مظاهرة أمام مقر البي.بي.سي بوسط لندن يوم الاثنين لدعم الصحفيتين المصريتين دينا سمك ودينا جميل. وقال الاتحاد إن الصحفيين في مصر لا يستهدفون بسبب وجهات نظرهم السياسية وإنما ببساطة لأنهم صحفيون. وزوج دينا سمك وهو صحفي أيضا اعتقل قبل أكثر من شهر ومازال معتقلا دون تهمة.

***

وفي تحليل عنوانه "ثورة النخبة المصرية" كتبت ميدل إيست تايمز: "خلال الأسابيع القليلة الماضية احتجزت أجهزة الأمن في مصر أكثر من ألف من أعضاء المعارضة المصرية ومنعتهم من حضور محاكمة أيمن نور. ومعظم هذه "العناصر الإجرامية" –بلغة الأمن- ضبطت متلبسة بجريمة التظاهر ضد محاكمة قاضيين امتلكا جرأة القول إن الانتخابات البرلمانية الأخيرة شهدت تزويرا للأصوات.

وتستمر الأخبار السيئة القادمة من القاهرة. قبل أيام قليلة اتهم صحفي معارض بارز وثلاثة من زملائه بارتكاب جرائم "نشر".

مرة أخرى تقيم الدولة قضية ضد وائل الأبراشي – رئيس تحرير صوت الأمة الأسبوعية العلمانية. فمقالاته الجريئة التي تتحدى النظام وتتحدى نتائج الانتخابات كفيلة بتحديد مصيره. واستهداف الأبراشي ذو مغزى واضح - بسبب موقف صحيفته من فكرة توريث الحكم. وهذا يعني أنه لا يعير "ابن الرئيس" اهتماما ويقول الكثير.

منذ فوز مبارك بفترة رئاسة خامسة وهو يعمل بشكل منهجي منظم على قمع المعارضة، فجدد العمل بقوانين الطوارئ سيئة السمعة وقبلها أجَّل انتخابات المحليات ودفعت الدولة بالبلطجية لمواجهة المتظاهرين بعنف شديد. والذين يسميهم المصريون بمرحهم المعتاد "الواد كاراتيه".

من المؤكد أن الرجل الذي جاء إلى الحكم بنسبة 88.5 بالمئة من الأصوات في ظل نسبة مشاركة قدرها 23 بالمئة فقط يمكن أن يتسامح مع انتقادات محدودة من المعارضة.

وبالنسبة إلى المتابع من الخارج يبدو قمع مبارك للمعارضة متهورا وغير مبرر. ولكن ما لا يراه المتابع من الخارج هو طبيعة التحدي الذي يواجه نظاما يعلم أن أيامه باتت معدودة.

ما نشهده في مصر هو انتفاضة نخبة، وهذه ليست حركة مكونة من الطلاب والعمال، فمعظم المعارضين مهنيون من المحامين والقضاة والأطباء والصحفيين والمهندسين وأساتذة الجامعات.

ومتوسط أعمار هؤلاء المشاغبين هو في الغالب في منتصف الأربعينات. وهم رجال متزوجون ونساء مهنيات في مراكز اجتماعية مرموقة وبالمعايير المصرية يعيشون مستوى حياة جيدة.

وعلى خلاف الدول الأخرى في الشرق الأوسط يتطلب الاحتفاظ بالسلطة في مصر اكتساب رضا النخبة المهنية، ومن ناحية الأهمية هذا الشرط الضروري للهيمنة السياسية يحتل الأولوية الثانية فقط بعد السيطرة على أجهزة أمن الدولة.

والآن تخرج الطبقات المهنية التي تستطيع لوم مبارك على ردوده الزائدة عن الحد إلى الشوارع، وفي الأسبوع الماضي منعت قوات أمن الدولة الآلاف من أعضاء نقابة المهندسين من إجراء انتخاباتهم في مقر نقابتهم، وضربت مطالبين باستقلال السلطة القضائية بعنف غير مسبوق، وتضع مقر نقابتي الصحفيين والمحامين تحت الحصار على مدار الأربع والعشرين ساعة.

ومن يزور أي جامعة في القاهرة لا يحتاج إلى مساعدة لكي يلاحظ أسراب شاحنات الأمن المركزي و"السجون المتحركة" التي تقف في حالة استعداد دائم لإسكات الطلبة المشاغبين وأساتذتهم. والوجود الأمني الكثيف في الجامعات في كافة أنحاء البلاد إشارة مؤكدة على أن النظام يعيش في حالة من الذعر.

لكن هناك جانب أخر من الفضيحة في مصر-مبارك. صحف المعارضة تحفل يوميا وأسبوعيا بتقارير عن اختلاس الأموال العامة والفساد المنتشر كالوباء حتى أن إبراهيم نافع – رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الأهرام السابق و"رئيس اتحاد الصحفيين العرب" – "جاءت رجله في الخية" كما يقول المصريون، ورغم ورود تقارير عن اتهام الرجل باختلاس عشرات ملايين الدولارات من صحيفته يواصل وهو على المعاش كتابة عموده الخاص في الصحيفة المملوكة للدولة والتي كانت تعتبر الصحيفة الحكومية الأكثر نفوذا في الشرق الأوسط.

وثورة النخبة المصرية تأتي في وقت غير مناسب لمبارك، في هذه المرحلة من اللعبة كان يفترض أن ابنه قد أعد بشكل جيد ليتولى إدارة نشاط العائلة "منصب الرئاسة" في بهرجة من الشرعية. وإذا كان هناك من كلمة سر تتوحد حولها المعارضة -التي تشمل اليساريين والليبراليين والأصوليين الدينيين- فهي التصميم على منع مثل هذا الاحتمال.

وإذا كان مبارك قد أكد من قبل أن مصر ليست سوريا ولن يكون هناك توريث، فإن المعارضة لحسني مبارك هي في الواقع حركة موجهة ضد جمال مبارك - ولي عهد وادي النيل الذي يعد نفسه للمنصب بالزيوت العطرية على طريقة الكهنة في مصر القديمة.

والآن ماذا يفعل الأب عندما يقف الناس في طريق طموحات ابنه السياسية؟ حسنا، في مصر قرر مبارك تجريم المعارضين، وينبغي أن نفهم قمع مبارك الخطير كفعل عقلاني لدكتاتور ليس لديه كثير من البدائل. إما أن يترك المعارضة تنمو أو يخنقها في المهد.

ولسوء حظه ليس لديه خيار التراجع ومشاهدة النخبة المصرية تفكك النظام الذي بناه على مدى 25 عاما من الحكم الاستبدادي. ولأنه كالمحاصر بين المطرقة والسندان يتصرف تلقائيا وينشر قوات أمن دولته في محاولة لسد الثغرات في جدار الخوف.

والأمر كله يتعلق بسؤال عن فترة اعتقال المعارضين وأعدادهم، وتعتمد حسابات مبارك - التي قد يثبت أنها صحيحة في المدى القريب- على أن المعارضة مكونة من عدد صغير ومحدود من المهنين المستعدين لقضاء وقت طويل في السجن. وإذا تمكن من إذلال عدد كاف منهم وإيقاف بضعة آلاف من معارضيه الأكثر حماسا - فسيحصل على مساحة كافية لكي يولي ابنه زمام قصر الرئاسة.

والأمور يمكن أن تسير بطريقة أسرع. قد يربح مبارك هذه الجولة ويبني جدارا أفضل لتحصين نظامه ضد رياح التغيير التي تهب على ضفاف النيل. ولكن حتى إذا أخمدت المعارضة لعام أو عامين، فإنها نجحت في تلقيح الهواء بشجاعتها وجرأتها، ومن الناحية الأخرى، يمكن أن تنتقل عدوى ثورة النخبة المهنية المصرية بسرعة بين الضباط من القيادات الوسطى التي تنتمي بدرجة كبيرة من الطبقات المتوسطة في مصر.

فقوات الأمن المصرية ليست من كوكب المريخ والنخبة المهنية ليست من كوكب الزهرة. والضابط له لبن عم أو أخت مهندسة - وخال بعيد قاض وجار يدرس في الجامعة. أي أن هامش القوة الذي يستخدمه النظام يتجه إلى التناقص إلى أن ترفض النخبة الأمنية المشاركة في توظيف نفسها لخدمته.

والجدير بالملاحظة أيضا أن صحف المعارضة لا تخفف صوتها، أما عامة الناس فقد وقعوا في حب القضاة المعارضين الذين يقفون على أرض صلبة ضد النظام.

كثير من الرجال الشرفاء الذين يحاربون معركة شريفة لإقصاء الدكتاتور المعمر قد يواجهون على الأرجح بعض الأوقات العصيبة إلى جانب أيمن نور. والنتيجة هو معاناة أسرهم وضياع وظائفهم لكنهم لن يخرجوا نن هذه الموجهة التاريخية خاليي اليدين. فهم أولا هزوا الأسس الأخلاقية والشرعية للنظام الذي يعتمد الآن كليا على احتكار وسائل ممارسة العنف على المعارضين السلميين. إنه صيف ساخن جدا في مصر.

***

في مجلة بيزنيس ويك كتب ستانلي ريد تحت عنوان "لماذا مازالت مصر لغزا؟ الاقتصاد المصري بدأ يجذب الاستثمار لكن مستقبله السياسي مازال أبعد ما يكون عن الوضوح.

الهزار والدلع أمور ليست معروفة عن الرئيس المصري حسني مبارك، لكن جنرال القوات الجوية المترهل السابق كان في 21 مايو الحالي يتطلع إلى زوجته سوزان وهي تصفق بينما يتراقص ويتمايل مئات من الضيوف من بينهم معظم النخبة السياسية ورجال الأعمال المصريين على غناء المغني الشعبي عمرو دياب في مدرج يطل على البحر الأحمر. وعلى الرغم من الصبغة الإسلامية المتزايدة في مصر كانت الخمور تتدفق بحرية. تلك الحفلة كانت علامة بارزة في مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع شرم الشيخ.

بينما لم يضمن مبارك (78 عاما) حتى الآن انتقالا مستقرا للسلطة أو إنقاذ الغالبية العظمى من المصريين من الفقر لديه الوقت والمزاج للاحتفال. وإذا نحينا جانبا التراجع الأخير في سوق الأسهم المالية، فإن المشهد الاقتصادي في مصر يبدو مبهجا، فقد عاد نمو الناتج المحلي الإجمالي في مصر بعد سنوات من الركود للارتفاع بنسبة 6 بالمئة سنويا، ويعود الفضل جزئيا إلى جهود حكومة رئيس الوزراء أحمد نظيف التي خفضت الضرائب والجمارك.

والسؤال الأكبر الآن أمام المستثمرين ومدراء الشركات الأجانب والمحليين هو ما إذا كانت الحكومة ستواصل تحسين البيئة المالية والتنظيمية للنشاط الاقتصادي. وفي الوقت الذي خطت بلد الأهرامات خطوات واسعة في السنوات الأخيرة، فإنها ما زالت مطاردة بمشاكل شائكة من بينها الراديكالية الإسلامية. وهناك عقبة كبيرة أخرى هي: المقاومة البيروقراطية لإصلاحات السوق الحرة.

وانتقال السلطة في مصر يحظى بدرجة أكبر من القلق في ظل عدم وجود خليفة لمبارك وعدم استقرار السياسة المصرية، وإذا غادر مبارك المشهد حاليا ستقع مصر في "أزمة دستورية".

وبينما تسير الإصلاحات الاقتصادية بيسر، تصطدم القافلة السياسية بالعديد من الحواجز –وهي نقطة يؤكدها ضرب الشرطة للمتظاهرين الذين يطالبون باستقلال السلطة القضائية في وسط القاهرة. ومبارك الذي يكمل ربع قرن في الحكم في أكتوبر المقبل سيموت في النهاية أو يصبح عاجزا عن الحكم، لكن ليس واضحات من سيخلفه. وكما يقول نجيب ساويرس صاحب شركة أوراسكوم للاتصالات "هذا سؤال المليون دولار".

لقد منع حرس النظام ظهور أحزاب قوية غير دينية مما صب في مصلحة الإسلاميين، وجمال مبارك ابن الرئيس الميال للبيزينس لا يثير الحماس لأن يكون مرشحا. وعلى طائرة عائدة من شرم الشيخ إلى القاهرة، تساءل رجل أعمال هندي بارز لماذا لا يغتنم عمرو موسى- أمين عام جامعة الدول العربية صاحب الكاريزمة والشعبية ووزير خارجية مصر السابق الذي ينتقد الولايات المتحدة بشدة- الفرصة. لكن على المدى القريب يبدو أن الوريث الأقرب إلى المؤسسة الأمنية هو صاحب الحظ الأوفر.

ولكن لا شيء مؤكد في مصر. فقد تلقت السلطات المصرية صدمة الخريف الماضي عندما فازت جماعة الإخوان المسلمين بـ 20 من المقاعد البرلمانية والمقلق بدرجة أكبر أن الإخوان فازوا في معظم الدوائر التي تنافسوا فيها ما يقتنع بعض المحللين بأنهم يستطيعون تحقيق أغلبية في أي انتخابات حرة. والسيناريو الأخر المخيف هو أن الشعبية المتزايدة للإخوان المسلمين يمكن أن تعمل كمحفز لتولي ضباط ميالين إلى الحكم الإسلامي.

الحكومة لم تصغ استراتيجية فعالة للتعامل مع الإسلاميين، وبدلا من ذلك حاولت كبح الانفتاح السياسي وهي تراهن على أن مبارك يمكنه إكمال فترة حكمه الخامسة لست سنوات، وفي هذه الأثناء يعتمد المستثمرون في مصر على سمعة البلاد في الاستقرار - فمبارك "الفرعون الأخير" هو ثالث رئيس في نصف قرن، لكنهم سيواجهون على الأرجح قدرا كبيرا من الخميرة السياسية المخضبة بالاحتمالات.

***

في مقال بصحيفة لوس أنجليس تايمز عنوانه "عقيدة الاستبداد- من طرابلس إلى بكين ترك الرئيس بوش وعده الجرئ بدعم الديمقراطية"، كتب دانيل بليتكا نائب رئيس أمريكان إنتربرايز إنستيتيوت لشئون السياسة الخارجية والدفاع ومايكل روبن الأستاذ المقيم في نفس المؤسسة البحثية، في لوس أنجليس تايمز (26 مايو):

الشهر الماضي أعلنت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس استئناف العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الكاملة مع ليبيا وأشارت إلى تخلي طرابلس عن الإرهاب وتعاونها المخابراتي. لتنهي بذلك تجميدا للعلاقات الدبلوماسية دام ربع قرن. هذا الإعلان مؤشر أيضا على نهاية فعلية لمذهب بوش الذي أعلن عند تنصيبه رئيسا للمرة الثانية أن "بقاء الحرية على أرضنا يعتمد بشكل متزايد على نجاح الحرية في دول أخرى. أفضل أمل للسلام في عالمنا هو نشر الحرية في كل أنحاء العالم".

ومنذ ذلك التصريح المهم شهدت إدارة بوش إلغاء مبارك للانتخابات، وتجاهلت ما يسمى بثورة الأرز في لبنان وتخلت عن المعارضين الصينيين السجناء؛ والآن تفكر واشنطن في عقد معاهدة سلام مع كوريا الشمالية.

واتضح بالفعل أن الخطاب الديمقراطي أسهل بكثير من تطبيقه. فواشنطن تخشى أن تخرج مصر من المعركة ضد القاعدة إذا ضغطن أمريكا أكثر من أجل الإصلاح. وهي تخشى أن توقف الصين استثماراتها إذا ضغط بوش لإطلاق سراح السجناء السياسين. فهل هذه المخاوف واقعية؟ لا. هذه الدول ما زال لديها مصالح موازية لمصالحنا. لكن ذلك لن يكون واضحا ما لم يجبر الرئيس المستبدين على الاختيار: إما الإصلاح أو تواجهون العزلة.

العديد من المعارضين والإصلاحيين الذين صدقوا كلمات بوش بأن الولايات المتحدة تقف معهم هم أول من يدفعون ثمن ضعف واشنطن. وخذلان هؤلاء سيجعل من الصعب إيجاد حلفاء ديمقراطيين، فالشجعان هم كتل البناء الحقيقية للانتقال إلى الديمقراطية، وبدونهم ستكون بدائل الاستبداد الذي يهدد مصالحنا قليلة جدا.

Sunday, June 04, 2006

روبرت فيسك وفولكهارد فينفور

أرابيسك
منشور بصحيفة الدستور الأربعاء 31 مايو2006

قادتني صدفة الترجمة عن الصحافة الأجنبية منذ أوائل التسعينات إلى متابعة ما يكتبه عدد من الصحفيين الأجانب من بينهم البريطانيان روبرت فيسك ودافيد هيرست وأن أتعرف مباشرة على صحفيين ألمانيين بارزين أيضا هما هارالد شومان المحرر الاقتصادي في مجلة دير شبيجل (وصاحب كتاب فخ العولمة- عالم المعرفة 1997) ومراسلها المخضرم في القاهرة فولكهارد فينفور، والأخير رئيس جمعية المراسلين الأجانب ويعمل صحفيا في مصر منذ 49 عاما!

فاكتشفت فروقا أساسية بين صحافتنا وصحافتهم، أولها الفرق بين لغة العلم ولغة الانطباعات والأحكام العامة، الفرق بين لغة الشك والاحتمال ومحاولة الوصول إلى الحقيقة انطلاقا من إدراك أنها "زئبقية" حمالة أوجه، وبين لغة القطع وأحادية النظر والادعاء بامتلاك الحقيقة والحكمة بافتراض أن الآخرين لا يملكون إلا الوهم.

بسرعة يمكنك أن تلاحظ الميل لاستخدام كلمات "يبدو" و"ربما" ويرجح" و"من غير المحتمل" في كتاباتهم، في مقابل مفردات "بالتأكيد" و"لابد" و"يجب" في كتابات صحفيينا، ناهيك طبعا عن عناوين مثل "فضيحة كبرى" وكارثة كبرى" والقصة الكاملة" التي تراها أحيانا عدة مرات على صفحات عدد واحد من صحيفة مصرية، وكأن الصحفيين الذين يكثرون من استعمال تلك التعبيرات قد رزقوا "علم الأولين والآخرين".

ويمكنك أن تلاحظ ببساطة أن التجرد والموضوعية ليسا مجرد أداة حرفة مكتسبة من التدريب عليها، وإنما هي سمة ثقافية عميقة الجذور لدى صحفي مثل روبرت فيسك عاش أكثر من نصف عمره في منطقة عمله الشرق الأوسط، لم يدرس فقط اللغة العربية وإنما قرأ واطلع على دراسات اجتماعية وسياسية في البلدان التي عاش فيها، فتجده يكتب بعمق عن مصر أو لبنان أكثر بكثير من غيره من المصريين أو اللبنانيين.

تجلس مثلا مع فولكهارد فينفور فيحدثك عن مصر عبد الناصر والسادات ومبارك ويلتقط فروقا دقيقة لا تلحظها عينك بسهولة، ويرسم صورة أقرب إلى الواقع من أوراق كثيرة مليئة بما هو غث.. وتكتشف أن مقال الرأي ليس مجرد "وجهات نظر معقلة في الهواء" أو "موضوعات إنشائية" قائمة على المحسنات اللفظية، بل مسنودة بمنطق ومعلومة وإشارة وتحليل.

تقلب نظرك في صحفنا بحثا عن مراسل في قامة أي من هؤلاء الباحثين عن جانب من تلك "الحقيقة الزئبقية" المتخصصين في شئون دولة أو منطقة جيوسياسية في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا فلا تجد بسهولة اسما مقنعا، وربما تلتمس العذر في أن صحفنا لا توفر للمراسل الإمكانيات اللازمة لتحقيق إنجاز مهني، ولكنك لا تستطيع أن تغفر لها العزوف عن معرفة العالم وعن تقديم خدمة المعرفة به للقارئ، وإذا ما فعلت قدمت تلك الصفحات المملة للشئون الخارجية التى تراها في صحف محنطة كالأهرام أو الأخبار أو الجمهورية.

وإذا قصرت البحث عن اسم صحفي لامع - بعيدا عن المراسلين- يتمتع بمصداقية وتواضع العالم لواجهت حقيقة مرة هي أن الأسماء قليلة جدا لا تتجاوز تقريبا أصابع اليد الواحدة.. فلماذا إذن لا تنجب ثقافتنا المهنية أسماء كثيرة لامعة؟ هل يقتصر العيب على ثقافة المهنة أم أن الثقافة العامة شريكة أيضا في الظاهرة وبقوة؟