Friday, December 25, 2009

ماذا حدث في نقابة الصحفيين.. "مااكرااام.. هوه.. هوه"

- أكاد أرى دون كيشوت على سلالم النقابة يحارب طواحين الهواء بسيف من خشب!

للمرة الأولى تقريبا في انتخابات نقابة الصحفيين يسير أحد المرشحين لمنصب النقيب وسط "زفة" من الأنصار يجولون مبنى النقابة من السرادق المنصوب أمامها إلى الدور الرابع حيث تتوزع لجان التصويت.. أحد أفراد "الجوقة" يحمل ميكرفون.. يهتف ويكرر وراءه آخرون: "مااكراااام.. هوه.. هوه" على وزن "أهليييييي.. هوه.. هوه"، فيما يتبادل الصحفيون في أروقة النقابة – ومنهم أيضا أنصار للأستاذ مكرم - نظرات الدهشة والاستهجان، ويتساءل القضاة رؤساء اللجان الانتخابية: "إلى هذا المستوى من الشعارات تدنى الصحفيون؟".

وهتافات أخرى على شاكلة "تنتخبوا مين؟ وحبيبكم مين؟" و"الكبير كبير.. مش عايزين تغيير".. تعبيرات تنضح بضحالة مستوى من ألفها، ولا تناسب ذوق ووعي كثير من الصحفيين، وكأن من يهتفون "أجرية انتخابات" قد نزلو توا من عربية كارو أو سيارة نصف نقل في حواري مصر.

بعض الخبثاء فسروا المشهد بأن حصانا عجوزا جريحا اكتشف فجأة أنه يمكن إزاحته من صدارة السباق بسهولة، فقرر استخدام كافة الأساليب الممكنة، أو أسلم قياده لمديري حملات الحزب الوطني، حتى لو كانت ستشوه صورته القديمة المعلقة على جدار.

على بعد خطوات من سلالم النقابة حيث تجمع أخيرا "هتيفة الانتخابات الكروية" – خليط من موظفين بمؤسسات حكومية وعمال مطابع وإداريين وسائقين في دار الهلال – وقف ضياء رشوان على باب النقابة يسلم على الداخلين للتصويت، ووردة جميلة تزين جيب جاكتته، وابتسامة لم تفارقه حتى بعد إعلان النتيجة، فقد فاز في الجولة الأولى رغم فارق الأصوات الضئيل لمكرم محمد أحمد، وأعيدت الانتخابات لعدم تحقيق أي من المرشحين 50 بالمئة + واحد من إجمالي الناخبين، وكانت نتيجة الجولة الثانية معروفة سلفا، فالرشاوى الانتخابية انهالت على معسكر مكرم، من المسارعة بحل مشكلة صحفيي الشعب، إلى زيادة بدل التكنولوجيا 80 جنيها (ثمن 2 كيلو لحمة تقريبا)، إلى توقيع بروتوكول مع هيئة الأوقاف لبناء مدينة للصحفيين في 6 أكتوبر، والادعاء بأن مكرم اتفق على تفاصيل سعر المتر الواحد والتزام الدولة بتوفير المرافق، رغم عدم صدور قرار التخصيص حسبما صرح رئيس هيئة الأوقاف في حينه، إلى استدعاء الصحفيين العاملين بالخارج (هربا من أجورهم المتدنية في مصر) بتذاكر طيران على حساب المؤسسات الحكومية، (أي أن حضرتك كدافع للضرائب تحملت جزءا من مصاريف نقل صحفيين للتصويت لصالح مرشح نقابي لم يدفع شيئا من جيبه الخاص).

في عام 2000 كان النقيب إبراهيم نافع والمرشح لدورة ثانية أكثر حصافة، أرسل تذاكر طيران إلى جميع الصحفيين في الخارج – من ينتمون إلى صحف حكومية أو غير حكومية - على حساب نقابتهم.. هذه المرة – على سبيل المثال - أرسل الأستاذ عبد الله حسن رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط فاكسا يدعو فيه مراسلي الوكالة للقدوم على حساب الوكالة ودعاهم نصا إلى التصويت للأستاذ مكرم.. وبعد نشر صورة من الفاكس تراجع رئيس الوكالة وأظهر فاكسا آخر.. وكذلك فعلت مؤسسة الأهرام.

لكن فكرة إرسال تذاكر لجميع صحفيي الأهرام العالمين بالخارج ومراسلي الوكالة ألغيت خوفا من أن يصوت عدد منهم لصالح ضياء رشوان، وتم انتقاء صحفيين بعينهم حوالي 50 وأرسلت لهم تذاكر طيران ذهاب وعودة، (بتكلفة في المتوسط 100 ألف جنيه على حساب دافع الضرائب)

أما أنصار الأستاذ مكرم في الحزب الوطني فكانوا أكثر كرما، استضافوا مراسلي الصحف الحكومية في المحافظات في أحد فنادق "المهندسين" ليلة أو ليلتين، نعموا فيها بكرم ضيافة بالغ – حسب تعبير أحدهم- وتكفل المحافظون بنقلهم إلى القاهرة لكي يدلوا بأصواتهم لصالح الأستاذ مكرم.. فيما تكفل مالك جريدة عشوائية ورئيس تحريرها في نفس الوقت بتعليق لافتات تأييد جديدة لمكرم قيمتها 22 ألف جنيه.

في حوالي الساعة الثانية ظهر جولة الإعادة، رن الموبايل، رقم تليفون أرضي..
- فلانة من جريدة الأهرام.
- أهلا وسهلا.
- أذكرك بموعد انتخابات جولة الإعادة.
- يا أستاذة أنا في لجنة الانتخابات بالفعل.
- طيب كويس ياريت تدي صوتك للأستاذ مكرم.
- يا أستاذة ميصحش.. ما تفعلينه مخالف للعرف ومخالف للقانون.. من سيدفع فاتورة التليفون هو جريدة الأهرام "القومية" - كما يقال - والتي يملكها قانونا شعب مصر وليس الحكومة المصرية ولا الحزب الوطني ولا رئيس مجلس إدارة الأهرام ولا رئيس تحريرها ولا أنصار الأستاذ مكرم فيها.

الحقيقة أنها شعرت بالحرج ولم تجد كلمات تعقب بها.. سألت زملاء آخرين فأكدوا جميعا أنهم تلقوا في نفس التوقيت تقريبا اتصال من رقم أرضي في الأهرام يدعوهم إلى التصويت للأستاذ مكرم..

عشية جولة الإعادة، حدث الشيء نفسه، لكن من مجلة المصور، شاب يقول إنه صحفي في المجلة، يذكرني بأن موعد الإعادة غدا، ويوصيني خيرا بالأستاذ مكرم.. هزلية الموقف أوحت إلي بأن أكمل الهزل إلى نهايته..
- شكرا يا أستاذ.. هل تحمل هذه الرسالة من الأستاذ مكرم.
- نعم.
- طيب من فضلك أبلغه التالي: "أستاذ مكرم صوتك أمانة.. ياريت تديه لضياء رشوان لأن ضياء نعرف نحاسبه أما حضرتك فلا نستطيع".
ارتبك الشاب ولم يجد إجابة سوى "طيب طيب هبلغه".

(يمكنك أن تحسب تكلفة الاتصال من تليفون أرضي بـ 5633 موبايل لأعضاء الجمعية العمومية الذين يحق لهم التصويت في متوسط دقيقة للاتصال مرتين، مرة من الأهرام ومرة من المصور، يصبح الإجمالي 11266 جنيها قابلة للزيادة)

عن نفسي، قمت بالدعاية لمرشحي، بأسلوب لا يمثل أي مخالفة للقانون، التقيت أصدقاء وزملاء قدامى في وكالة الأنباء الألمانية ورويترز والأسبوع والأحرار، واتصلت بهم عبر هاتفي المحمول، وبأدب وعشم الزمالة ولأسباب محددة دعوتهم لمناصرة ضياء رشوان، "ولكم حرية الاختيار في النهاية"، فوجئت بأن أحدهم يقول لي "لقد عملت مع الأستاذ مكرم أكثر من ستة عشر عاما، وأكن له مودة التلميذ لأستاذه، لكنني وددت هذه المرة أن أقول له يا أستاذ مكرم لا داعي لأن ترشح نفسك، دع الفرصة للشباب.. لكني امتنعت عن أن أقول له ذلك خوفا من رد فعله، وحرصا على مشاعره".

في داخل اللجان، لاحظ كثير من الزملاء أن هناك أعدادا من الناخبين جاءوا لأول مرة إلى الانتخابات، (إجمالي الفارق بين المصوتين في الجولة الأولى والثانية نحو ألف صوت)، وكأنهم يصوتون لأول مرة في حياتهم، رغم أن أعمارهم تتجاوز الأربعين والخمسين.. ناخبة تحمل كارنيه النقابة، أخذت بطاقة التصويت وذهبت خلف الستارة، ثم فجأة نادت "إلحقوني يا جماعة.. أنا كتبت اسمي في الورقة.. ممكن ورقة تانية"، رغم أن رئيس اللجنة نبهها قبل أن تدخل لأن تكتب في المربع داخل البطاقة اسم من ترشحه للمنصب.

سيدتان تحملان كارنيه النقابة، اسم كل منهما خديجة، الأولى أخذت بطاقة التصويت ولم تذهب إلى خلف الستارة، تنتظر صديقتها لكي يصوتا معا..
- يا أستاذة ما يصحش.. حضرتك لا زم تصوتي لوحدك.
- بس احنا الاثنين اسمنا خديجة.
- ولو يا أستاذة.. لازم سرية التصويت.
دخلت وصوتت، ثم خرجت بالبطاقة مفتوحة، وأظهرت لخديجة الثانية اسم من صوتت له.
- يا أستاذة كده مخالف.. لا يصح أن تظهري لأحد اسم من أدليت بصوتك له.

تذكرت ما كان يتردد منذ منتصف التسعينات عن دفع رؤساء تحرير ومجالس إدارات مؤسسات صحفية حكومية لضم أعداد من الإداريين والموظفين والسكرتارية للنقابة، لكي يكونوا أصواتا حاسمة في الانتخابات يوما ما.

كان مشهد وجبة الغداء مثيرا للريبة والغثيان في نفس الوقت.. في اللجان يأتي مسئولو الدعم اللوجيستي لحملة الأستاذ مكرم فيتركون وجبات تكفي جميع الموجودين من مندوبيهم ومندوبي ضياء وأعضاء اللجنة القضائية، ثم يأتي أحدهم من الأهرام بوجبات تكفي العدد الموجود أيضا، ثم يأتي ثالث من الأخبار.. بالإضافة إلى وجبات الناخبين من المؤسسات الحكومية يتسلمونها ببونات، الوجبة تكلفتها في المتوسط 30 جنيها، ولو ضربت عدد أصوات المؤسسات الحكومية في ثمن الوجبة الواحدة لبلغ الرقم نحو 90 ألف جنيه (على حساب دافع الضرائب).

بعد حرج الجولة الأولى كان الأستاذ مكرم ميالا للانسحاب، وبعد جلسة مع عدد من أصدقائه للمشورة نصحوه بإرسال مذكرة للرئاسة ادعى فيها أن القوى السياسية تدخلت ضده في الجولة الأولى، وبالتالي يجب أن يتدخل الحزب الوطني وكافة مؤسسات الدولة لدعمه، وتوافق مضمون المذكرة مع تصريح "غريب" أطلقه علي الدين هلال أمين إعلام الحزب الوطني قبل انتخابات الصحفيين بفترة قصيرة قال فيه "لو تدخلت الجماعة المحظورة (يقصد جماعة الإخوان المسلمين) سنتدخل لدعم مرشحنا"، وبعدها روجت شائعة أن ضياء رشوان إخواني، وهنا اكتملت جملة علي الدين هلال، واكتملت الصورة يوم الإعادة.. الحزب الوطني يسيس معركة الانتخابات، يرسل أمناء إعلامه داخل النقابة يتابعون أولا بأول سير التصويت والحشد، يدخلون إلى اللجان في سابقة هي الأولى من نوعها ليسألوا عن حجم الإقبال على التصويت، ويدفع الحزب الوطني بممثلي أحزاب ورقية صديقة مثل "حزب شباب مصر" و"حزب الغد" مكرر ليحتشدوا تأييدا لمكرم، ويجمعوا فتات الأصوات من هنا وهناك.

ورغم كل ذلك الاحتشاد والدعم والرشاوى والوعود بعث نحو 60 بالمئة من أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين (3361) برسالة رفض لمرشح الحكومة مكرم محمد أحمد.. 1561 صحفي صوتوا لضياء رشوان في الجولة الثانية بزيادة مئة صوت عن الجولة الأولى (رفض إيجابي لمكرم)، وامتنع 1800 صحفي عن الحضور ليبلغوا رسالة رفض سلبي لمرشح الحكومة.. أي أن كل هذا الضجيج الحكومي لم ينجح سوى في جذب 922 صوتا من إجمالي من لم يحضروا أو يصوتوا لمكرم في الجولة الأولى نحو 4136 صوت.

فلماذا قدمت كل تلك الرشاوى ولماذا دعمت الحكومة والحزب ورؤساء تحرير الصحف الحكومية والمحافظون حملة الدعاية للأستاذ مكرم بهذه الطريقة "المهينة" لتاريخه النقابي، وتدخلوا في انتخابات الصحفيين – حسب تعبير د. علي الدين هلال؟ لأنهم اعتبروها بروفة لانتخابات الرئاسة، وأقنعوا القيادة السياسية – كذبا- بأن المحظورة ستتدخل لصالح ضياء، ولأنهم لا يريدون بالفعل أن يتمتع الصحفي بحريته الكاملة من خلال تحسين أجره، ذلك المطلب الأساسي للصحفيين، والموضوع الرئيسي للانتخابات، فلم تتضمن حملة الأستاذ مكرم أي ذكر لأجور الصحفيين، فهو نفسه فور توليه منصب النقيب منذ عامين أحبط التفاوض مع الدولة استكمالا لما بدأه النقيب السابق جلال عارف، ووضع مكرم مشروع تعديل الأجور في الثلاجة طوال السنتين الماضيتين.

كنت شاهد عيان على الانتخابات في جولتيها الأولى والثانية وعندما يسألني أحد الأصدقاء: في رأيك ماذا حدث في نقابة الصحفيين؟. أتذكر بسرعة ذلك الهتاف "مااكراااام.. هوه.. هوه".. باعتباره يلخص ما حدث.. وأتذكر خيول السباق في لحظات شيخوختها، مرتبكة الخطى منهكة على وجوهها بقايا باهتة من شموخها القديم.. فاز ضياء رشوان المرشح لأول مرة لمنصب نقيب الصحفيين باحترام كثير من الصحفيين والمتابعين لانتخاباتهم، وأنهى الأستاذ مكرم محمد أحمد مسيرته النقابية بفوز هزيل وقفت فيه الحكومة والحزب مع الشيوخ ضد الشباب، ليصبح في العامين القادمين نقيبا مودعا.. حارسا على سلالم النقابة يمنع "ذئبا إخوانيا وهميا" من الدخول.. لماذا أتذكر دون كيشوت يحارب طواحين الهواء بسيف من خشب!