"الجزيرة الإنجليزية": مرحلة جديدة... ربما!
"الجزيرة الإنجليزية": مرحلة جديدة... ربما!
تستطيع أن تعتبر "وجود" قناة الجزيرة –التي سعت إلى نقل الجانب الخلفي المأساوي من حرب العراق- في قطر، مقابلا موضوعيا "ذكيا" لـ "وجود" مقر قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط –التي شنت تلك الحرب وما تلاها من مآسي الاحتلال- على بعد كيلومترات من مقر الجزيرة نفسها. نعم، هي لعبة جمع المتناقضات والتوازنات الدقيقة، إذ من كثرة ترديد اسم "الجزيرة"، ونجاحها في اجتذاب اهتمام المشاهدين العرب بما تطرحه من قضايا جادة وجريئة، أصبح الذهن ينصرف إلى حقيقة دون أخرى كلما ورد اسم قطر: باعتبارها "مقر الجزيرة"، بينما يتوارى إلى حد النسيان أنها مقر القيادة المركزية الأميركية!
تستطيع تأكيد ذلك، لكنك لا تستطيع أيضا أن تنكر أن الجزيرة –ربما من دون نية مباشرة من رعاتها- أصبحت المقابل الموضوعي لتلفزيونات عربية رسمية، احتكرت تغذية عقول مواطنيها بما هو غث و"رسمي" ومسطح من الأفكار والموضوعات، حتى باتت عقول ملايين من العرب كأنها معزولة أو سجينة في أقبية "التلفزيونات الرسمية المظلمة"، ومربوطة بخيط رفيع من عيونها إلى شاشات تحد من التفكير، وتكرس السلبية والاهتمامات الهامشية التي تتناقض فعليا مع مصالح شرائح مشاهديها.
ومع انطلاق قناة الجزيرة الإنجليزية أو الدولية، يمكن أن يتشكل شيئا فشيئا المقابل الموضوعي للمحطات التلفزيونية الغربية ذات الرؤية الثقافية النمطية، إلى حد ما، في معالجتها لقضايا العالم العربي وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، أي "ما هو خارج نطاقها الثقافي والحضاري". ويمكن نشر زاوية أخرى لرؤية الأحداث والوقائع وتحليلها، خارج المنظور الإعلامي المرتبط بما هو سائد من أفكار في الغرب عن "العالم الخارجي".
لقد حققت الجزيرة الدولية بداية طيبة منذ انطلاقها في منتصف الشهر الماضي، وأثارت انطباعات جيدة لدى مراقبين موضوعيين -أو يحاولون أن يكونوا كذلك- في الغرب، على نحو ما كتب دانتي شيني، الباحث البارز في مشروع الإجادة الصحافية في "كريستيان ساينس مونيتور"، بأن "الجزيرة الدولية تقدم تغطية معمقة عن الشرق الأوسط أكثر مما يراه الأميركيون عادة... وتقدم أيضا منظورا مختلفا عن أي من وسائل الإعلام الأميركية. قد ينتابك إحساس بأنك تشاهد "بي.بي.سي" من رسوماتها الواضحة المريحة، ومن المذيعين المحترفين بلكناتهم الإنجليزية... لكنها ليست نسخة من "بي.بي.سي"، إنها صوت عربي-بوعي ذاتي. وهي تقدم نفسها بقوة أيضا كمحطة مستقلة.
ورغم أن كثيرين في أميركا يرون أن السماح لها بالبث هناك يعني إعطاء منبر لمن يروجون دعاية معادية لأميركا، إلا أن هناك آخرين يعتقدون أن رؤية الطريقة التي ينظر بها العالم العربي للولايات المتحدة قد ينير عقول كثير من الأميركيين".
كما كتب برنارد بيرنهارد في نيويورك صن(اليمينية الموالية لإسرائيل) أن "سي. إن. إن-إنترناشيونال وبي.بي.سي-وورلد ليستا متوفرتين على الإنترنت على مدار الأربع والعشرين ساعة خارج أميركا وبريطانيا، ولذلك تتمتع الجزيرة الإنجليزية بالسبق منذ البداية على كل منهما. وهذا أول هدف تحرزه القناة، إلى جانب التأثير المتزايد لوجهة النظر الإسلامية في الغرب... والجزيرة الإنجليزية قادرة على تحقيق مفاجآت، فوجود شخصيات إعلامية بارزة في الغرب، مثل السير ديفيد فروست، بين فريق عملها سيضمن تجنب المزايدات في محطتها الأصلية، وهي مرشحة لاقتناص فرص كثيرة، ويمكنها الضغط على منافسيها من المحطات الأميركية والبريطانية، وستكون بالتأكيد قوة يحسب حسابها".
ولم يخل الأمر بالطبع من انتقادات "أيديولوجية" أو متحيزة سلفا، منها ما وصل إلى حد القول إن القناة "قناة الإرهاب الإنجليزية" على لسان كليف كينكاد، الكاتب في مجلة "أكيورنسي إن ميديا" (الموضوعية في الإعلام). وهو كلام لا يختلف كثيرا من توصيفات ستيفن ستالينسكي، الكاتب المنتظم في نيويورك صن ومدير مكتب "ميمري- مركز أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط"، الذي يعد بشكل منتظم ترجمات ومختارات من الصحف ووسائل الإعلام العربية فيما يخص "معاداة إسرائيل ومعاداة السامية ومعاداة الغرب عموما".
وهناك من وصل إلى حد الدعوة إلى جمع تبرعات من أثرياء اليهود، وعقد مؤتمر للمنظمات اليهودية الأميركية، للنظر في إنشاء محطة فضائية مقابلة للجزيرة، نظرا إلى أن "اليهود، والدولة اليهودية إسرائيل بالتبعية، قد انهزمت في حرب الأفكار"، بحسب إيز لايبلر، رئيس لجنة علاقات إسرائيليي الشتات في مركز القدس للشؤون العامة، وهو من القيادات اليهودية الدولية المخضرمة.
الآن تستطيع أن تتمنى أو حتى تحلم حلما قابلا للتحقق، بأنه أصبح في إمكان العرب أخيرا كسر احتكار الإعلام الغربي"للحقيقة الإخبارية"؛ فنجاح الجزيرة العربية أغرى –رعاتها في المقام الأول- بإمكانية مد صورتهم المعنوية على نطاق أوسع من الأثير، وفي مساحات أكبر من جغرافيا العالم، وربما تكون النوايا والأغراض السياسية أعقد مما هو معلن أو ما يمكن استنتاجه من على السطح، لكن "الآثار الجانبية" لأي ظاهرة ليست سلبية دائما كما قد يفترض المرء، بل ربما تكون أكثر إيجابية من النوايا المقصودة نفسها.
المقال منشور في جريدة الغد الأردنية بتاريخ 14 ديسمبر 2006
تستطيع أن تعتبر "وجود" قناة الجزيرة –التي سعت إلى نقل الجانب الخلفي المأساوي من حرب العراق- في قطر، مقابلا موضوعيا "ذكيا" لـ "وجود" مقر قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط –التي شنت تلك الحرب وما تلاها من مآسي الاحتلال- على بعد كيلومترات من مقر الجزيرة نفسها. نعم، هي لعبة جمع المتناقضات والتوازنات الدقيقة، إذ من كثرة ترديد اسم "الجزيرة"، ونجاحها في اجتذاب اهتمام المشاهدين العرب بما تطرحه من قضايا جادة وجريئة، أصبح الذهن ينصرف إلى حقيقة دون أخرى كلما ورد اسم قطر: باعتبارها "مقر الجزيرة"، بينما يتوارى إلى حد النسيان أنها مقر القيادة المركزية الأميركية!
تستطيع تأكيد ذلك، لكنك لا تستطيع أيضا أن تنكر أن الجزيرة –ربما من دون نية مباشرة من رعاتها- أصبحت المقابل الموضوعي لتلفزيونات عربية رسمية، احتكرت تغذية عقول مواطنيها بما هو غث و"رسمي" ومسطح من الأفكار والموضوعات، حتى باتت عقول ملايين من العرب كأنها معزولة أو سجينة في أقبية "التلفزيونات الرسمية المظلمة"، ومربوطة بخيط رفيع من عيونها إلى شاشات تحد من التفكير، وتكرس السلبية والاهتمامات الهامشية التي تتناقض فعليا مع مصالح شرائح مشاهديها.
ومع انطلاق قناة الجزيرة الإنجليزية أو الدولية، يمكن أن يتشكل شيئا فشيئا المقابل الموضوعي للمحطات التلفزيونية الغربية ذات الرؤية الثقافية النمطية، إلى حد ما، في معالجتها لقضايا العالم العربي وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، أي "ما هو خارج نطاقها الثقافي والحضاري". ويمكن نشر زاوية أخرى لرؤية الأحداث والوقائع وتحليلها، خارج المنظور الإعلامي المرتبط بما هو سائد من أفكار في الغرب عن "العالم الخارجي".
لقد حققت الجزيرة الدولية بداية طيبة منذ انطلاقها في منتصف الشهر الماضي، وأثارت انطباعات جيدة لدى مراقبين موضوعيين -أو يحاولون أن يكونوا كذلك- في الغرب، على نحو ما كتب دانتي شيني، الباحث البارز في مشروع الإجادة الصحافية في "كريستيان ساينس مونيتور"، بأن "الجزيرة الدولية تقدم تغطية معمقة عن الشرق الأوسط أكثر مما يراه الأميركيون عادة... وتقدم أيضا منظورا مختلفا عن أي من وسائل الإعلام الأميركية. قد ينتابك إحساس بأنك تشاهد "بي.بي.سي" من رسوماتها الواضحة المريحة، ومن المذيعين المحترفين بلكناتهم الإنجليزية... لكنها ليست نسخة من "بي.بي.سي"، إنها صوت عربي-بوعي ذاتي. وهي تقدم نفسها بقوة أيضا كمحطة مستقلة.
ورغم أن كثيرين في أميركا يرون أن السماح لها بالبث هناك يعني إعطاء منبر لمن يروجون دعاية معادية لأميركا، إلا أن هناك آخرين يعتقدون أن رؤية الطريقة التي ينظر بها العالم العربي للولايات المتحدة قد ينير عقول كثير من الأميركيين".
كما كتب برنارد بيرنهارد في نيويورك صن(اليمينية الموالية لإسرائيل) أن "سي. إن. إن-إنترناشيونال وبي.بي.سي-وورلد ليستا متوفرتين على الإنترنت على مدار الأربع والعشرين ساعة خارج أميركا وبريطانيا، ولذلك تتمتع الجزيرة الإنجليزية بالسبق منذ البداية على كل منهما. وهذا أول هدف تحرزه القناة، إلى جانب التأثير المتزايد لوجهة النظر الإسلامية في الغرب... والجزيرة الإنجليزية قادرة على تحقيق مفاجآت، فوجود شخصيات إعلامية بارزة في الغرب، مثل السير ديفيد فروست، بين فريق عملها سيضمن تجنب المزايدات في محطتها الأصلية، وهي مرشحة لاقتناص فرص كثيرة، ويمكنها الضغط على منافسيها من المحطات الأميركية والبريطانية، وستكون بالتأكيد قوة يحسب حسابها".
ولم يخل الأمر بالطبع من انتقادات "أيديولوجية" أو متحيزة سلفا، منها ما وصل إلى حد القول إن القناة "قناة الإرهاب الإنجليزية" على لسان كليف كينكاد، الكاتب في مجلة "أكيورنسي إن ميديا" (الموضوعية في الإعلام). وهو كلام لا يختلف كثيرا من توصيفات ستيفن ستالينسكي، الكاتب المنتظم في نيويورك صن ومدير مكتب "ميمري- مركز أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط"، الذي يعد بشكل منتظم ترجمات ومختارات من الصحف ووسائل الإعلام العربية فيما يخص "معاداة إسرائيل ومعاداة السامية ومعاداة الغرب عموما".
وهناك من وصل إلى حد الدعوة إلى جمع تبرعات من أثرياء اليهود، وعقد مؤتمر للمنظمات اليهودية الأميركية، للنظر في إنشاء محطة فضائية مقابلة للجزيرة، نظرا إلى أن "اليهود، والدولة اليهودية إسرائيل بالتبعية، قد انهزمت في حرب الأفكار"، بحسب إيز لايبلر، رئيس لجنة علاقات إسرائيليي الشتات في مركز القدس للشؤون العامة، وهو من القيادات اليهودية الدولية المخضرمة.
الآن تستطيع أن تتمنى أو حتى تحلم حلما قابلا للتحقق، بأنه أصبح في إمكان العرب أخيرا كسر احتكار الإعلام الغربي"للحقيقة الإخبارية"؛ فنجاح الجزيرة العربية أغرى –رعاتها في المقام الأول- بإمكانية مد صورتهم المعنوية على نطاق أوسع من الأثير، وفي مساحات أكبر من جغرافيا العالم، وربما تكون النوايا والأغراض السياسية أعقد مما هو معلن أو ما يمكن استنتاجه من على السطح، لكن "الآثار الجانبية" لأي ظاهرة ليست سلبية دائما كما قد يفترض المرء، بل ربما تكون أكثر إيجابية من النوايا المقصودة نفسها.
المقال منشور في جريدة الغد الأردنية بتاريخ 14 ديسمبر 2006