محمد عبلة.. يوميات مصرية في لوحات
مثقف عنيد وصوفي متعمق في دروب الصوفية ويمارس العلاج بالفن
يقول: حكامنا يريدون أن يكونوا آلهة دون أن ينجزوا شيئا وجميع مراحل الانحدار في الترايخ المصر تأتي عندما يفقد الحاكم هيبته للأرض
لم يكتف برصد ظاهرة الخوف من السلطة لدى المصريين وكان أول متظاهر يخرج إلى شوارع القاهرة عام 1991 ضد العدوان الأمريكي على العراق
متمرد على القهر في لوحاته ويشير في أحد معارضه إلى تغول السلطة وسيطرة الأمن على الحياة العامة
عبارة يرددها دائما.. الأطفال والفنانون وحدهم هم القادرون على إنقاذ العالم
محمد عبلة ليس مجرد فنان تشكيلي يمتلك قطعة أرض وبيتا في جزيرة القرصاية راح يدافع عنها إلى جانب جيرانه من أهالي الجزيرة في مواجهة اعتداء الحكومة على أراضيهم لمصادرتها، بل إن تلك القصة مجرد فصل في رحلته الطويلة دفاعا عن القيم النبيلة.. عن الأسرة المصرية، عن دور الفن في المجتمع، عن إنسانية المصريين، عن الطبقة الوسطى التي تعرضت لضربات شديدة على مدى ربع القرن الماضي، بلوحاته ومعارضه التي تخرج بالفن من جدرانه المتحفية، وعزلته المفروضة عليه فرضا، إلى عيون الناس العاديين، باستخدام لغة فنية بسيطة يدركها الجميع.. اختيارات محمد عبلة الفنية والإنسانية تؤهله لأن يكون أحد شخصيات العام.
مشكلة مصر حاليا كما يراها عبلة هي "اختفاء الطبقة الوسطى من المشهد.. من التأثير.. من التعبير عن نفسها، الأغنياء ليسوا مهتمين بالبناء، والفقراء لا يقدرون عليه، والطبقة الوسطى هي الوحيدة القادرة على البناء، وضربها يعني ضرب الثقافة والمستقبل".
في معرضه "العائلة" الذي مثل بالنسبة لكثيرين في وسط الفن التشكيلي خروجا على المألوف، يلتقط عبلة إحساس تلك الطبقة بنفسها، اعتزازها بذاتها، ترى أفرادها في لوحاته – كما في واقعهم قديما- ينظرون إلى عينيك مباشرة دون انكسار، على خلاف سكان المدن الآن الذين رسمهم عبلة من قبل بلا وجوه، أو ينظرون إلى الأرض. هكذا ببساطة يشخص الفنان محمد عبلة حالة مجتمعه.
هو يذكرنا بتآكل الطبقة الوسطى بجمالها الإنساني وتوحدها وزهوها بنفسها، ويحن إلى عائلته وطفولته، لكنه في نفس الوقت يتمنى أن تنتقل "قيم العائلة - الأسرة" إلى الأجيال المقبلة وكأنه يبحث عن لغة للمستقبل، ويؤكد من خلال شخوصه أن فترة الأربعينات والخمسينات هي أكثر الفترات التي يظهر فيها إحساس المصري بوجوده وهويته.
والعودة إلى القديم والتاريخي والأسطوري عند عبلة لها ما يبررها موضوعيا، فبعد حريق مبنى سفر خانة عام 1997 والذي قضى على 500 عمل فني له أنجزها في عشرين عاما، انتابته حالة من الغربة الشديدة، وتوقف عن الرسم لفترة، كانت صدمته التي لازمه تأثيرها فترة طويلة، فعمل بجنون لإنجاز عدد كبير من الأعمال وعدد كبير من المعارض، بعد أن شعر بأنه "يقف عاريا بلا تاريخ فني".. كان كل ما يشغله أن يحيط نفسه بالدفء الذي تمنحه اللوحات.. وكان قد أنجز قبلها تمثال سيزيف ليوضع في وسط مدينة فالسروده في شمال ألمانيا، وهو تعبير شخصي جدا عن حالته، أن يحاول مرة تلو الأخرى ولا تتوقف مثل سيزيف، الذي يدفع الحجر إلى أعلى الجبل دون كلل.
واختياره للإقامة على جزيرة في وسط النيل لها دلالتها الرمزية، كما يقول عبلة ضاحكا "أحيط نفسي بالماء حتى إذا اشتعل حريق مرة أخرى يكون من السهل إطفاؤه"، وهي استجابة لحلم قديم وبداية لمرحلة جديدة من إنجاوه الفني.. مرحلة من التأمل في التاريخ وفي تاريخه الشخصي، بدأت بمجموعة من الأعمال عن المراكب القديمة مستوحيا رسوم الصخور ومجموعة أعمال القاهرة حيث بدأ استخدامه للصور الفوتوغرافية تتناول القاهرة كمدينة، رسم فيها الناس بخطوط بسيطة وبدون ملامح تقريبا كأنه ميبحثون لأنفسهم عن طريق.
بعد ذلك الحريق اتجه عبلة لقراءة التاريخ وكأنه يبحث لنفسه عن جذور، وذهب إلى واحات مصر في الصحراء الشرقية ليجري أبحاثا فنية ذات طابع تاريخي وإنساني، تلك الدراسة جعلته يدرك ميزات أساسية للمصريين، يدرك أن "ثقافة المصريين شيء قائم بذاته منذ قديم الأزل، يقومون بالبناء والتشييد ولديهم إحساس واضح جدا بالأرض وجميع العناصر التي يتعاملون معها لها علاقة بمكانهم وبيئتهم، ويتسمون بالجرأة والجد في العمل، في كل بيئة يصنعون حضارة مختلفة".
تلك الرحلة في بيئات مصرية قديمة ومتنوعة مازالت تحتفظ بطزاجتها كونت لدى عبلة مفردات وقاموسا فنيا غنيا انتقل بالطبع إلى لوحاته، وكونت أيضا معرفة جيدة بالمصريين وإيمانا عميقا لديه بقدراتهم الكامنة التي جرفتها أحيانا "عوامل التعرية" الثقافية، وأدرك أنهم في كل الظروف يستطيعون أن يصنعوا كيانا ووجودا، وأدرك عبلة أيضا أن تحول مصر إلى بلد طارد لسكانه جعل أبناءها يشعرون بالقلق، وفقدان الإحساس بذاتهم.
قراءة عبلة للتاريخ ميزته كفنان ومثقف، وأعطت للوحاته ومعارضه عمقا أكثر من أبناء جيله من الفنانين، وجعلته لا ينسى أبدا ضرورة أن يكون لها "مضمونا ذهنيا" وليست مجرد تجارب في الشكل والتقنية الفنية، هو يرى أن فكرة الحاكم "المحترم" مفصلية في نهضة مصر أو تراجعها، "فرمسيس الثاني بنى مجده وهو يحتضن شعبه، الاتجاهان سارا في خط واحد، وكان المصريون يعملون لديه ليس لأنهم يخافونه بل لأنهم يحبونه باعتباره "ظل الإله" الحقيقي في الأرض، يشق الترع ويبنى السدود لتحافظ لهم على حياتهم ويحارب الأعداء ليحميهم، وفي نفس الوقت يقيم المعابد لتخليد نفسه.. عندئذ صنع المصريون حضارة لأن فكرة الحاكم كانت مندمجة مع فكرة الوطن، أما اليوم فحكامنا يريدون أن يكونوا آلهة دون أن ينجزوا شيئا.. أن يأخذو كل مميزات الحاكم، ومن الطبيعي ألا يعمل الشعب بذمة وضمير، ومن الطبيعي أن يحدث التفكك عندما لا تكون عينه على البلد.. جميع مراحل الانحدار في الترايخ المصر تأتي عندما يفقد الحاكم هيبته للأرض". وفي البرلس تعلم عبلة أن المصريين عندما يكونوا غير مرتبطين جغرافيا بالعاصمة.. "بالسلطة المركزية غير العادلة" يحدث نوع من الازدهار الاجتماعي، فتلك المنطقة مرت عليها فترات كانت منفصلة تماما عن الدنيا بسبب ارتفاع منسوب المياه، وبعيدة عن "السلطة المركزية" بكل سوءاتها، هناك كانت تبدو ملامح الترابط في المجتمع واضحة.
من خبراته بالأماكن والبشر المقيمين فيها تعلم عبلة أن فكرة الخوف من أن تقول رأيك وأن تكون حرا عطلت كثيرا من الإبداعات، ولم يكتف برصد ظاهرة الخوف من السلطة لدى المصريين، بل مارس التمرد عليها، وكان أول متظاهر يخرج إلى شوارع القاهرة عام 1991 ضد العدوان الأمريكي على العراق، عندما كان الصمت والذهول يخيم على الجميع ولم تخرج تظاهرة واحدة في مصر تعبر عن مشاعر مواطنيها تجاه ما يحدث، فخرج عبلة وابنه وزوجته يحمل لوحة لوحة بسيطة على ظهره يقول ببساطة "لا"، يقول عن ذلك الموقف "كان الناس ينظرون لي باعتباري مجنونا.. منذ زمن طويل لم يشاهدوا مظاهرات.. لكنهم في داخلهم يريدون السير معي.. لم أكن أشعر بالخوف، وإنما كنت أشعر بأنني إن لم أفعل ذلك سأجن.. كنا نتابع أخبار ضرب العراق.. وامتلأنا بشحنة لا بد من تفريغها في فعل إيجابي". التمرد على القهر يمارسه عبلة في لوحاته أيضا، في أحد معارضه الأخيرة يشير يشير بوضوح إلى تغول السلطة وسيطرة الأمن على الحياة العامة، بإشارات ذكية لا تخرج الفن إلى "خطابية زاعقة".
فهو لا يجد عبلة فرقا بين الفن ومواقف الواقع، "الإنسان لابد أن يعبر عن نفسه، وكلما زادت مساحة الحرية ازدهر الفن".. الفن عنده كاليوميات. لا ينفصل عن الحياة، ومن الممكن أن يغير حياته من أجل الفن، عندما أتى إلى جزيرة القرصاية كان يريد تغيير مساره الفني، فغير طريقة حياته، وذهب إلى أوروبا لمعرفة الفن والثقافة الأوروبية فتعلم الألمانية والإنجليزية، ودرس بهما في النمسا وألمانيا والسويد.
هو مثقف عنيد صاحب قضية جاد دؤوب.. صوفي متعمق في دروب الصوفية، درس علم النفس، ومارس العلاج بالفن، وهو أخ أكبر لشباب الفنانين يأخذ بيدهم يشجعهم، ويخوض معاركهم ومعاركه دون أن يتحسب للعواقب أو الخسائر، لا يهتز أو يتوقف أمام الأزمات، منخرط طول الوقت وسط أبناء مجتمعه ومهموم بأفكار زمنه، يصر على أن يمثل الفن رؤية الفنان لزمنه ومعايشاته وواقعه ومجتمعه، لا أن ينفصل عنه ليمثل أفكار ثقافة أخرى أو رؤى الآخرين. هو كما تقول أدبيات السياسة "مثقف عضوي".
لم يتوقف عن العمل من أجل إصلاح المؤسسة الثقافية في مجال الفن التشكيلي، يهزمونه تارة ويقصونه عن الساحة تارة أخرى، لكنه لا يلين، بل يزداد إصرارا على هدفه، ومن بداياته الأولى في أواخر السبعينات كان حريصا على ألا يكون "ربيب" المؤسسة، بل مستقلا عنها قادرا على نقدها ومعارضة "سياستها –التي تبناها بجدارة وزير الثقافة الحالي- في تفكيك وتفريغ الحركة التشكيلية المصرية من محتواها" والدفع بها إلى زوايا بعيدة عن اهتمامات الناس وقضايا الوطن، إلى عزل الفنان في قوالب فنية عبثية مستوردة، إلى تشويه هويته المحلية والمعرفية.
وهو يرى أن الحركة الفنية المصرية شهدت إجهاضا للشباب، وعندما تضرب المؤسسة الثقافية الشباب وتعلمهم الخضوع والخنوع سيكون المستقبل مليئا بالمنافقين، "للأسف تمتلك المؤسسة 80 بالمئة من أوراق اللعبة أي أنها تسيطر على الساحة، وقاعات العرض الحكومية خسارة مادية نتيجة دفع رواتب ذلك الجيش من الموظفين دون مردود حقيقي، ومن الأفضل تحويلها إلى قاعات خاصة، ومن مظاهر فساد تلك المؤسسة أيضا إفساد النقاد وشرائهم بتحويلهم إلى رسامين واقتناء لوحاتهم، لتكون "حسنة" مقابل كتابتهم عن الوزير وإنجازاته وإبداعاته العظيمة، وتوقفهم عن انتقاد سياساته"، وقد دفع عبلة ثمن مواقفه استبعادا لسنوات من العرض
في قاعات الدولة.
الأطفال والفنانون وحدهم هم القادرون على إنقاذ العالم، عبارة شكلت وجدانه منذ صغره عندما دخل كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية على عكس رغبة والده الذي كان يريده أن يدخل الكلية الحربية عندما كانت صور ضباط ثورة يوليو مازالت منتشرة في كل مكان، وفي الإسكندرية بدأ عبلة مواجهة الحياة منفردا، وهو القرار الذي لم يندم عليه أبدا، كانت الإسكندرية في بداية السبعينيات مازالت مدينة تحمل بقايا طابعها "الكوزموبوليتاني" المتعدد الثقافات، بقايا الجاليات الأجنبية بكنائسها ونواديها وأشعار كفافي لا تزال تتردد في شوارعها القديمة، كانت أيام الدراسة بالنسبة له رحلة مع السعادة، شعور غامر بالنشوة لخمس سنوات رغم مصاعب الحياة وقلة الموارد، وأنهى دراسته بمشروع التخرج الذي أعده عن رحلة عمال المراكب في النيل، ورغم حبه للبحر وللإسكندرية إلا أن موضوع النيل فرض نفسه بقوة من خلال استدعائه لذكريات الطفولة حينما كان يشاهد المراكبية يأتون من جنوب مصر على مراكبهم بأجسادهم النحيلة يتراقصون عن بعد في حركة دائبة أثرت خياله البصري، بالإضافة إلى رحلة الأقصر التي أمضى فيها شهرين على مقربة من مقابر البر الغربي برسومها الفرعونية التلخيصية التي تركت أثرها في اعماله حتى الآن، وظل النيل والناس موضوعات تلازمه على مدى مشاوره الفني.
ثم أنهى دراسته وسافر إلى أسبانيا، حيث بدأت صدمته الثقافية وراح يبحث عن إجابة على سؤاله حول علاقة الشرق بالغرب ودور الفن ووظيفته، تساؤلات حول الإجابة عنها بتجاربه، الدهشة الأولى أمام عالم الفن، وارتياد المتاحف والتعرف على أعمال كبار الفنانيين الغربيين، وعن علاقته كمصري بكل ذلك وبماذا سيعود إلى مصر.
أتيحت له فرصة العرض الأولى في ألمانيا بجاليري هوهمان وكان النجاح الذي حققه فرصة لعروض أخرى ومكنه من القيام برحلات إلى دول أخرى في أوروبا الشرقية عندئذ، ورغم النجاحات كان يشعر دائما بأنه ينقصه الكثير لكي يتعلمه، وأن يفهم المجتمع الغربي، كيف بنى نفسه وحقق طفرات في مجالات كثيرة.
الطابع الرمزي غلب على أعماله المبكرة فكانت شخوصه ملائكة وأطفال وطيور وأشخاص وحيدين في فراغ اللوحة، وأثر زواجه وإحساسه بالاستقرار مع عودته إلى مصر في شكل ومضمون أعماله، فبدأت تمتلئ بالعناصر مرة أخرى، وبدأت "مرحلة الزحام" التي رسمها كثيرا، وهي تعبير عن الرغبة في الالتحام بالناس في مصر والرجوع إلى حضن الوطن، وظلت تلك المرحلة تعويذة يعود إليها كلما أحس بالوحدة أو اليأس.
عاد إلى مصر ليلتحم بالأحداث السياسية والاجتماعية.. حرب الخليج، تغيير المجتمع وفساد الذوق، لينجز العديد من المعارض التي تعبر عن رؤيته النقدية لتحولات المجتمع، مثل معارض "السلم والثعبان" و"حفريات المستقبل" و"قاع النيل" وشارك مع مجموعة من الفناين خارج المرسم في "مشروع كوم غراب"، عندما قرر هو ومجموعة من الفنانيين أن يجملوا حوائط قرية بكاملها.
الفنان محمد عبلة مشغول بالصورة الفوتوغرافية، منذ بداياته كان يستخدمها كجزء مكمل لبناء اللوحة مع قصاصات الجرائد، وما تحويه أعماله من إسقاطات سياسية واجتماعية واضحة هي شكل من أشكال الرسالة التي يصر على توصيلها بطريقة غير مباشرة.
في سنوات شبابه كتب عنه الناقد الراحل فاروق بسيوني "مع بدايات السبعينات بدأ الجيل الرابع من الفنانين فى الظهور، مصاباً فى معظمه بما يشبه الإعياء مشتت الرؤى، متكاسلا إلى حد كبير عن البحث الجاد، مقطوع الصلة مع بعضه أو مع ما قبله تقريبا، اللهم إلا قلة قليلة جداً منه، لولاها لما كان هناك جيل رابع ولا يحزنون ولعل فناناً مثل (محمد عبلة) واحدا من تلك القلة التى تبحث عن صياغة ورؤية معا تتيح لها أن تبلور تجربة فنية تحقق التواصل والاستمرار مع ما سبق.
وفي تجربته الفنية نشعر بفارق كبير بين بدايتها، ونتائجها ــ برغم قصر مدتها الزمنية ــ إلا أننا نلمح إشارات منبئة وصادقة تبشر بامتلاك أسلوب خاص، فبعد ما هضم معطيات التجربة (التصويرية) عند (حامد ندا) نجده يمر على نصاعة اللون عند (فرانز مارك) لينتقل إلى البحث فيما أرساه (بول كلى) من تجارب فى علاقة (الشكل باللون) ليتحول بعد ذلك الى البحث فى علاقة الشكل عن طريق المصادفة بالحركة الانتشارية للون واللمسة كما يفعل فنانو (التاتشيزم) وعلى رأسهم (جاكسون بولوك).
أى أنه قد تحول فى رحلة بحث من التشخيص للتجريد منشغلاً أثناءها بتحقيق توازن بين (التعبير والتشكيل) سواء كان ذلك التعبير عن طريق الشكل أو عن طريق اللون بدرجات إشعاعه وتأثيره وسيطرته أو حياديته من ناحية، سواء كان التشكيل قائماً على الرسم المرتبط بملامح الطبيعة، أو عن طريق التجريد الخاص بملامح تلك الطبيعة من ناحية أخرى، وتلك الجدية فى البحث والوعى بلغة الشكل، اللذان يأتيان بعد اجتياز التدريب الأكاديمى الجيد هى ما تجلعنا نشعر إزاء تجاربه المتعددة بمولد فنان جديد".
محمد عبلة ليس مجرد فنان تشكيلي هو الترجمة الواقعية لشخصية "محمد أبوسويلم" في فيلم الأرض ليوسف شاهين.. أصيل كالأرض التي نبت منها، وإنساني إلى أبعد الحدود، وزعيم بالفطرة.. هو ذلك الفرز الطيب الذي مازالت تجود به مصر أحيانا رغم كل ما يعتورها من تشويه لشخصيتها التاريخية.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور يناير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
الإساءة للرسول وجمال مبارك
هل تتذكر الصور المأساوية لمقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة.. ذلك المشهد الذي فجر ردود أفعال عربية وعالمية واسعة؟ مظاهرات وتعاطف جارف مع الشعب الفلسطيني وإدانات وشجب لمجازر المحتل الإسرائيلي، لكن تكرار مشاهد القتل المأساوية بشكل شبه يومي عبر القصف الصاروخي من الطائرات لمدنيين عزل لم يعد يفجر نفس ردود الأفعال، وأصبح الخبر الملفت هو الذي يحمل محتوى نوعيا جديدا في طبيعة العنف وأسلوب القتل.
ينطبق الحال أيضا على العراق.. اعتاد الناس على أخبار الانفجارات والعثور على مجموعات من الجثث مقيدة اليدين مقتولة برصاص في الرأس.. الدهشة الأولى انتهت وبردت المشاعر وهدأت ردود الأفعال.. نفس الشيء مع النشر الأول للرسوم المسيئة للرسول ثم إعادة النشر مجددا؛ عاصفة من المظاهرات والشجب وتنظيم حملات لمقاطعة السلع الدنماركية ومطالبة بسحب السفراء وطرد البعثات الدبلوماسية للدنمارك، ثم ردود أفعال لامبالية في المرة الثانية.
هذا هو الميكانيزم النفسي للشعوب، وليس العربية فقط كما يحلو للبعض أن يقول، بل لكل الشعوب تقريبا؛ المفاجأة والدهشة تصنع رد فعل قويا، والاعتياد والتكرار يجعل رد الفعل باردا أو حتى محبطا يائسا، وهذا ما يدركه جيدا كثير من السياسيين وأجهزة المخابرات التي تستعين النفس كثيرا وتستفيد من دراساتهم لسلوكيات المجموعات البشرية تجاه الأحداث المختلفة والتدرج في جرعات المصائب.
نفس التكنيك تستخدمه إسرائيل والدنمارك والاحتلال الأمريكي في العراق، وحتى النظام المصري.. خذ مثلا فكرة تصعيد جمال مبارك في عالم السياسة.. الفرق بين الحالات الأولى والحالة الأخيرة - حالة جمال- هو أن الأولى تبدأ بالصدمة ثم اللعب على "الاعتياد"، أما الثانية فتعتمد على تحقيق الهدف عبر جرعات والتدرج في التبرير، والتراجع النسبي في فكرة "نفي الانطباع المتولد لدى الناس"، ولك أن تتابع "صيغ النفي" على لسان الرئيس ولسان جمال.. في البداية نفي مطلق لفكرة التوريث، وعبارات من نوع "لا أفكر ولا أنوي ولا أطمح" و"مصر ليست سوريا" ثم بعدها "ابني بيساعدني مثل بنت شيراك التي تساعد أباها"، ومؤخرا وفي جلسة ضيقة في الحزب الوطني يقول الرئيس "لو الشعب عايزه ينتخبه"، وهكذا يبتلع الجمهور أقراص المهدئات واحدا تلو الآخر، ولا مانع من أن يخرج "آحاد" في صحف حكومية سيئة السمعة يهاجمون المعارضة التي تريد أن تمنع "مواطنا" هو جمال مبارك "من حقه الطبيعي كمواطن" في الترشح لمنصب الرئاسة!
هناك بالطبع فروق بين قتل الأطفال والمدنيين والإساءة للرسول وتصعيد جمال، لكنها جميعا "مصائب" تريد إسرائيل والدنمارك والنظام المصري "تعويد" الناس عليها.. والميكانيزمات واحدة.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
وهو إيه في حياتنا حلو؟
وصلتني الرسالة التالية موقعة باسم رحاب صالح من كفر الشيخ- بلطيم، تعليقا على مقال "سارق الفرح"، الذي كنت أتحدث فيه عن العلاقة بين الموت والحياة "في المطلق".. تقول الرسالة: "بص حواليك الحياة صعبة؟ يمكن انت مش حاسس بيها عشان انت في مكان تاني؟ لكن لو كنت زينا ومعانا في نفس الدنيا دي كنت هتقول الموت أهون وأحسن من الحياة؟ لأن الفلوس بقت بتتحكم فينا وهما بقوا بيتحكموا فينا وكل حاجة صعبة وليها تمن وإنت الخسران كمان؟ لا عارفين نتعلم ولا عارفين نشتغل ولا ناكل ولا نشرب ولا عارفين نعيش خالص في بلدنا.. ولما نيجي نقول يا جواز بيكون حاجة تانية خالص.. وكمان بيلومونا علي إننا كفتيات بنتجوز اللي أكبر مننا عشان غني؟ طيب مهو من اللي شايفينه يا ناس.. ولما نقول يا هجرة تقولوا معندناش انتماء وطني وطماعيين قوي؟ طيب مهو لو لقينا هنا مكناش روحنا هناك؟ ولو قلنا يا حب؟ مكتوب علينا الحزن ومش ممكن نتهنى بيه في ظل الحياة دي! هنعيش ازاي بالحب ومفيش شقة ولو لقينا الشقة هنعيش ازاي بالحب ومفيش شغل والا هنعيش بالحب وناكل ونشرب وندفع ايجار سكن وتليفون وميه وكهربا بالحب؟
احيانا بقول لنفسي والله الموت احسن.. بجد الموت أحسن؟ انا مش نكدية بالعكس أنا بحب الحياة.. بس؟ بس؟ مشكلتنا في الحياة أكبر من اننا نعرف نعيشها زي ما إحنا عايزين أو حتي نقدر نحقق حلم واحد بنحلم بيه؟ تخيل أنا حاسة إني عمري ما هحقق حلم لي ابدا.
انا بكتب قصص وكمان مسلسل سيت كوم وكان نفسي حد يساعدني عشان أوصل.. بس للأسف الإيميل اللي انا بعت ليه مردش عليا، لا كده ولا كده؟ اتنرفزت واكتأبت وقطعت الورق.. بس رجعت تاني أكتبه، وقلت لنفسي خليني أحاول تاني؟ يمكن! وأهو إحنا عايشين ومش عايشين لغاية ما نحقق حلم جايز يكون مستحيل بس أهو.. بنحاول".
انتهت الرسالة.. كنت أتحدث في العموم، فإذا برحاب تحدد الأمور أكثر، ولا أعرف إن كانت محقة تماما أم لا لكن دواعي الإحباط واليأس في حياة "الشباب" حاليا كثيرة، ولا نصيحة عندي غير ما قالته هي تقريبا، علينا أن نصر على الحياة، وأن نرفض أن تتسرب إلينا الرغبة في الموت مبكرا، صحيح أن فرص النجاح والتحقق "للموهوبين" محدودة، لكن لا شيء يدوم على حاله.. والرغبة في الحياة تنتصر دائما في سن الشباب، فلا داعي "للسوداوية المبكرة".. والصراع هو سنة الحياة.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
القمح المستحيل
طوابير "العيش" أصبحت طقسا يوميا في حياة كثيرين في قرى مصر ومدنها، والسبب ارتفاع أسعار القمح عالميا، مما اضطر هيئة السلع التموينية الجهة الوحيدة المنوط بها في مصر شراء احتياجاتها الأساسية من الخارج إلى تنويع مصادر شراء القمح، من روسيا إلى سوريا وأخيرا تسعى لشرائه من إيران، وليس من المنتظر في المدى القريب انفراج هذه الغمة، فتقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر حديثا عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام يتوقع عدم انخفاض أسعار القمح في الأسواق العالمية خلال العام الزراعي 2007/2008 وأن فاتورة استيراد القمح ستواصل الزيادة، لتزيد الطوابير طولا، وتشتد المعارك اليومية سخونة.
غرفة الحبوب الأمريكية أصدرت في أكتوبر 2007 بيانا عن أكثر عشرة دول في العالم استيرادا للقمح في موسم 2006/2007 وتصدرت مصر القائمة الدول بإجمالي 7 ملايين طن، وتصدرت أيضا قائمة الدول الأكثر استيرادا للقمح الأمريكي في الفترة من يوليو 2007 إلى منتصف أكتوبر من العام نفسه، برقم قياسي هو 7 .2 مليون طن مقارنة بـ 9 .0 مليون طن في نفس الفترة من العام السابق وبزيادة 300%، والأرقام مرشحة للزيادة في العام الحالي.
فهل فكر إخواننا في الحزب الحاكم "المهمومين" حاليا بالاستعداد لانتخابات المحليات، وسيناريو التوريث في حل غير الاستيراد من أمريكا أو سوريا وإيران وربما السعودية التي حققت كل منها اكتفاء ذاتيا من القمح؟.. لا أظن أنهم في حاجة للتفكير، فالحل موجود يطرحه تقرير مركز الأهرام نفسه، ويطرحه مئات من المتخصصين في مجال الزراعة والاقتصاد منذ سنوات: زيادة المساحة المزروعة بالقمح إلى 4 ملايين فدان ووضع أسعار مجزية لشراء القمح من الفلاحين تشجعهم على زراعته، التقرير يؤكد أيضا على "أهمية استغلال الأراضي الزراعية الزائدة على احتياجات السودان والمعروضة بالفعل للاستثمار وتبلغ مساحتها 20 مليون فدان من إجمالي 32 مليون فدان جاهزة للزراعة في السودان، وأكثر من ضعفها من الأراضي القابلة للاستصلاح والزراعة، وهذه المساحات تحتاج إلى الخبرة العلمية والتقنية والعمالة من مصر ومعها الاستثمارات المالية من دول الخليج وهي تكفي لسد جانب كبير من الفجوة الغذائية في العالم العربي وتحقيق الاكتفاء الذاتي العربي بالكامل من الذرة والقمح".
فهل نرجو مستحيلا لو أن وزراء الزراعة والاستثمار في مصر والسودان ودول الخليج عملوا في مواطنيهم معروفا، واجتمعوا بانتظام أو استثنائيا واتفقوا على شئ واحد هو توفير اكتفاء ذاتي من الخبز، على طريقة وزراء الداخلية الذين لا يغيبون عن اجتماع عربي واحد لزوم "أمن الدولة" العربية، ووزراء الإعلام الذين يتفقون فقط على "تجريد" المواطن من حريته الإعلامية عبر الفضائيات لحماية "الأنظمة والرموز" من الانتقاد.. الماضي يؤكد أننا نرجو مستحيلا..
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
الشعراء عندما يؤرخون
في كتاب (رحلتي.. الأوراق الخاصة جدا) الذي يسجل فيه "الشاعر" فاروق جويدة آراء خاصة وصريحة للملحن والمطرب الكبير الراحل محمد عبد الوهاب، يقول عبد الوهاب إن الرئيس الراحل عبد الناصر كان "يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول ويعلم أنه يخدع الجماهير ومع ذلك تصدقه الجماهير بحماس شديد، وكان (خليفته) أنور السادات يخطب في الجماهير وهو مؤمن بما يقول ولا يكذب ولا يخدع ومع ذلك لا تصدقه وتقول عنه إنه ممثل، وكذاب.. سبحان الله"، ويقول عبد الوهاب أيضا أن "الاشتراكية أفسدت الفن "فالأغلبية والجماهيرية لا تدفع فنا إلى الرقي، والقرآن الكريم دمغ الأكثرية فما من آية تشير إلى الأغلبية إلا وكان الناس لا يفقهون، ولا يبصرون، ولا يعلمون.. أما الملوك والأمراء والصفوة فكانوا يتسمون بحسن الاستماع إلى الفن الرفيع".
ولا يقول لك عبد الوهاب ولا محرر الكتاب كيف قاس المطرب الراحل درجة الصدق والكذب في الحالتين، ولا يفسر "سذاجة المصريين في التعامل مع ما يقوله عبد الناصر ولماذا لم يكونوا بنفس الدرجة من السذاجة مع ما يقوله السادات، اللهم إذا كانت عبارة "سبحان الله" التعجبية الغامضة هي تفسيره الوحيد، ومن الطبيعي أن يكون هذا رأي عبد الوهاب الذي منحه السادات لقب "الدكتور اللواء"، لأول مرة في التاريخ تقريبا يمنح فيها رئيس ملحنا لقب لواء ودكتور في نفس الوقت، وهذا ليس غريبا عليه، فقد منحه الناس لقبا يسجل رأيهم فيه وهو "مطرب الملوك والأمراء".
أما عن أن "الاشتراكية التي أفسدت الفن.. والقرآن الذي دمغ الأكثرية" فكلام مرسل لا علاقة له بالواقع، فما يقصده عبد الوهاب "بالاشتراكية" في مصر فلم يكن كذلك، وإنما حالة من استنهاض الروح الوطنية وإتاحة الفرصة للطبقة الوسطى لكي تعبر عن نفسها، فازدهر الفن في مصر الستينات، وقراءة القرآن كانت المعلم الأول للرعيل الأول من المطربين في فنون التعبير والأداء الصوتي وتمثل المعاني والإحساس بموسيقى الكلمات.
لكن غير الطبيعي والغريب في الموضوع كله أن نبحث عن تقييم للتاريخ في أقوال مرسلة لشخص غير متخصص، لمجرد أنه مشهور، مثلما فعل جويدة، ذلك الشاعر العابر في تاريخ الشعر، والذي لم يحتف به سوى محبو شعر نزار قباني، باعتباره نسخة مقلدة منه، وهو أيضا لم يكن في يوم من الأيام كاتبا أو باحثا سياسيا ينقب في أوراق التاريخ، ليقدم للقارئ أوراق اعتماده محللا أو باحثا.
الأرجح أن كلمات عبد الوهاب لاقت هوى جويدة، الذي دخل أروقة الصحافة في جريدة الأهرام من باب قسم "المحاسبة"، بعد أن أبدت سيدة مصر الأولى السابقة جيهان السادات إعجابها بشعره، فرشحته للصفحة الثقافية بها وراح يرد الجميل بعد ذلك، ومازال ممتنا حتى الآن على ما يبدو.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
سارق الفرح
يتسلل بهدوء شديد بين ثنايا روحك، فلا تعرفه، يقولون إنه يولد معك في نفس لحظة الميلاد، يظل حبيسا في مكان ما تحاصره رغبتك في الحياة وحبك لها، وينتظر بصبر ودأب منقطع النظير، فهو واثق تماما أنه سينتصر في النهاية، يكبر شيئا فشيئا دون أن تنتبه.
الشعر الأبيض يتسلل إلى رأسك شعرة شعرة، فلا تلاحظ الفرق بين يوم وآخر، ووزنك يزداد زيادة طفيفة شيئا فشيئا لا تشعر بها إلا بعد فترة طويلة، وبشرة وجهك تقل نضارتها، تتسرب إليها خطوط الزمن، الأمراض البسيطة زمان تصبح مزعجة، النزوع إلى المغامرة يقل، الإحساس بالدهشة يتراجع، الحكمة تقتلها، الخبرة تتجاوز الأحداث، تستطيع توقعها بسهولة، فتاريخك الشخصي أصبح مليئا بها، يصبح الماضي أرشيفا كبيرا، لا يعود هناك جديد، تصبح الأحداث الحالية شريطا معادا، رأيته من قبل، وتزيد الإحالة إلى الماضي، وتزيد الرغبة في تذكره، فقد كان لأحداثه طعم آخر، طعم البهجة.
لا أحد يعرف على وجه التحديد متى يبدأ الإنسان رحلة الموت، لكن هناك من يقولون إنك تشعر به في لاوعيك، إحساسك الداخلي بالرغبة في الحياة يتراجع، والاكتفاء منها يغلب الطمع في المزيد.
يتحول صراعك الداخلي مع ذلك الكامن في مكان ما بجوار قلبك أو في خلايا عقلك، إلى صراع خارجي، فتسعى جاهدا لأن تعطي امتدادك على الأرض ما تبقى فيك من حياة، تنقل أرض المعركة إلى كائنات أخرى من صلبك، فتكافح من أجل أن يحيا أبناؤك حياة أفضل، تعطيهم كل ما لديك، وتتخلى عن كل طموحاتك ونزواتك.
اصبحت تدرك –بلاوعيك- أنك لن تكسب المعركة الداخلية، وأن النهاية التي كنت طول الوقت تتجنب التفكير فيها، وتشطبها من حساباتك، بل وتفترض –متيقنا- كل صباح أنها غير ممكنة، وأن صباحا آخر سيأتي.. أصبحت وشيكة.. تلك الحقيقة التي كنت تحولها كل ليلة كلما خلدت إلى النوم إلى وهم، تتجلى حاضرة إلى وعيك، ولا تستطيع الفكاك منها.
لحظات الاكتئاب أو التشاؤم الشديد التي تمر بها في مراحل مختلفة من عمرك قد تشعرك أن الحياة بلا معنى، أو تنمي داخلك عزوفا عنها، فتخصم من رصيدك في المعركة الداخلية مع الموت، لكنها لا تستمر طويلا، فالعداد البيولوجي يواصل عمله، ويستمر في مساره الطبيعي حتى تحين اللحظة الحاسمة، التي ينقض فيها سارق الفرح على ضحية مستسلمة لنهايتها راضية بمصيرها.
وداعا مجدى مهنا.. صديق كل الصحفيين ووداعا رجاء النقاش عاشق الحياة.. وكلنا عابرون في نفس الطريق العابر.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
مصر وإيران
عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران لا يعني إمكانية التحالف الاسترتيجي بينهما كما يتمنى البعض، وإنما يعني علاجا للمواقف التي أدت إلى القطيعة بين الدولتين منذ عام 1979، واستعدادا للتعاون في ملفات "متواضعة" بعينها، مثل استيراد القمح الإيراني أو تصدير بعض المنتجات المصرية لإيران أو إنشاء مصنع مشترك للسيارات في مدينة السادس من أكتوبر، ومصنعين للسكر في إيران، وتفعيل مجلس رجال أعمال أو حتى ترتيب قدوم وفود سياحية إيرانية للمزارات الشيعية في مصر رغم مخاوف الحكومة المصرية من تداعيات ذلك على العلاقات بين شيعة الداخل وشيعة إيران.
والخلافات الشكلية حول "جدارية" تحمل اسم قاتل السادات "خالد الإسلامبولي" لا تمثل في الغالب عقبة أمام عودة العلاقات، فمنذ سنوات طلبت وزارة الخارجية الإيرانية من مجلس مدينة طهران تغيير اسم شارع "الاسلامبولي", مجاملة للرئيس مبارك على مبادرته بزيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي بمقر إقامته علي هامش مؤتمر جنيف, وعلى الفور سارع مجلس مدينة طهران وأغلبه من اليمين المحافظ بالموافقة واختيار اسم الانتفاضة بدلا منه, وهو اختيار لا يخلو من إشارة واضحة المعاني.
أما الخلافات حول مواقف سياسية كبيرة مثل العلاقة مع إسرائيل وأمريكا فتظل معلقة في الهواء، لا يمكن أن تحسم بين يوم وليلة، لأن أي تعديل فيها يترتب عليه أشياء كثيرة، لا يقوى عليها النظامان في مصر وإيران حاليا، فلا إيران مستعدة للاعتراف بإسرائيل ولا مصر مستعدة للتراجع عن اتفاقية السلام معها ولا حتى قادرة على تعديل أحد بنودها، ولا إيران مستعدة "للتحالف مع أمريكا" وهو أمر غير وارد على الإطلاق على الأقل في ظل نظامها الحالي، ولا مصر مستعدة للخروج من عباءة أمريكا، بل إن تقاربها النسبي والمحدود مع إيران حاليا تحدوه رغبة أميركية في أن تلعب مصر دوراً في إقناع طهران بالعمل على مساعدة القوات الأمريكية في العراق، والتوقف عن تخصيب اليورانيوم، أي أن قرارها بإعادة العلاقات مع إيران ليس قرارا مصريا صرفا، فيما تبقى ملفات مثل دور إيران في أمن الخليج وعلاقتها بحزب الله في لبنان ودعمها للأصوليين الإسلاميين موضع نقاش بين الطرفين.
لا داعي إذن لأن يتفاءل أنصار "علاقة استرتيجية بين مصر وإيران" إذا جاء مسئول إيراني إلى القاهرة أو استضافت القاهرة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أو سافر وزير خارجية مصر أو حتى رئيسها إلى طهران.. العلاقة الاستراتيجية بين البلدين تصنعها عقلية أخرى غير موجودة حاليا في الإدارة السياسية المصرية، عقلية تدرك أن تحالفها مع أمريكا لا يحقق مصالحها بل يخصم منها وأن إدارة علاقة مع إسرائيل دون امتلاك أوراق ضغط وعناصر قوة كفيل بتلقي إهانات منها بشكل دوري، وقضم دورها في المنطقة شيئا فشيئا حتى يصل إلى الحضيض.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
مبالغات النقاب
يبدو أن "أفكار" مجتمعنا أصبحت في حالة يرثى لها، قضايا بسيطة يمكن حسمها بقليل من الجهد تستغرق زمنا في النقاش وشدا وجذبا عنيفا، ومزايدات وضحالة في الطرح، وتفتيشا في النوايا، وتفسيرات لخلفيات تآمرية محتملة؛ 9630 ممرضة يرتدين النقاب من بين 90 ألف ممرضة في المستشفيات الحكومية، سيخضعن قريبا (أول مارس) لقرار ارتداء زي موحد يظهر الوجوه والأيدي أثناء العمل.
الحكومة من جانبها تعتبر الظاهرة "سياسية" ينبغي مقاومتها والحد منها، أي أنها كانت "نايمة في العسل" عشرات السنوات حتى انتشرت ظاهرة الحجاب ثم النقاب منذ منتصف السبعينات وإلى الآن، والإسلاميون من جانبهم يعتبرون القرار اعتداء على "الحرية الشخصية" وتجاوزا ضد الإسلام، ويتندرون بعدم تدخل الحكومة لمنع النساء المتبرجات في كل مكان، ويشنون حملة في البرلمان ضد حظر النقاب حتى لا يمتد المنع إلى مجالات أخرى.
عضو المجلس حمدي حسن يستشهد على عدم الخطأ في ارتداء النقاب داخل المستشفيات بأن "الأطباء أنفسهم يضعون أقنعة على وجوههم في غرفة العمليات"، وينسى أن الغرض من القناع عندئذ وقائي لا أكثر، وأن المريض المخدر ليس في حاجة لأن يرى وجه طبيبه للتفاهم أو التواصل معه كما هو الحال فيما يخص الممرض أو الممرضة، ود.حمدي السيد نقيب الأطباء حذر من أن منع النقاب مخالف للدستور، لأنه اعتداء على الحرية الشخصية، ونقابة الأطباء التي يمثل التيار الإسلامي غالبية أعضاء مجلسها حذرت وزيرالصحة من "طرد" الممرضات اللاتي لا يلتزمن بالقرار الجديد، ونسي النقيب ومجلس النقابة أن "الحرية الشخصية" سواء في السفور أو التبرج لها حدود.
قبل أعوام اشتكى طفلي وكان في رياض الأطفال من أن مدرسة "التربية الدينية" تخيفه، ذهبت إلى المدرسة فعلمت أنها منقبة، وتصر على ارتداء النقاب في الفصل أمام أطفال في عمر الخامسة لأن الشبابيك زجاجية ويمكن أن يرى رجل مار في الطرقة أو في الشارع وجهها! أي أنها فضلت أن تمارس حريتها الشخصية في غير مكانها وعلى حساب عملها ووظيفتها، فتعليم الأطفال مخارج الألفاظ ومن بينها ألفاظ "القرآن" الذي تعلمه للأولاد يقتضي أن تكشف وجهها، والتواصل معهم نفسيا يقتضي ذلك أيضا، وإدارة المدرسة لأنها "ذات هوى إسلامي" تبنت ما يطرحه نقيب الأطباء والإسلاميون اليوم فيما يتعلق بالممرضات.. الموضوع أبسط من كل الجدل المثار حوله.. 10 بالمئة من الممرضات يمكن إحالتهن للعمل الإداري، أو يغيرن وظيفتهن مادمن لا يستطعن أداءها كما ينبغي، و"الحكومة" لكي تنتصر في "حربها مع النقاب" عليها أن تغير من أدواتها.. لكنها للأسف لن تستطيع فهي أكثر تخلفا من أن تكتشف الطريق الأسلم لمنع "التشدد الفكري" سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي في المجتمع.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
السوسة في الجدر
"النفخ في قربة مقطوعة" مثل شعبي و"الضرب في الميت حرام" مثل آخر، لكل منهما معناه المعروف المختلف عن الآخر، ولكنهما في حالة الصحف التي أنشئت خصيصا لتلميع صورة سياسات الحزب "الوطني" –لا مؤاخذة- الحاكم يتساويان، فما تفعله تلك الصحف نفخ وضرب في وقت واحد.
بعض جهابذة الحزب لاحظوا أن الصحف المستقلة والمعارضة سيطرت على الساحة الصحفية رغم ضعف إمكانياتها، وأصبحت مسموعة الصوت لدى القراء، وزاد توزيعها كثيرا عن الصحف الحكومية التي لا يعرف أحد أعداد توزيعها بالضبط، فهي الناشر والموزع في نفس الوقت، والأهم أنها أصبحت بلا مصداقية، لأنها مازالت تسير على نفس نهجها القديم.. تبحث عن رضا المسئولين ولا تبحث عن اهتمامات القارئ، هذا بخلاف أن المزاج العام في مصر لم يعد يخيل عليه النفاق الدائم وأصبح يتعامل بقرف مع فيض أخبار المسئولين التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هؤلاء الجهابذة تفتق ذهنهم عن فكرة أقل ما توصف به أنها "عبيطة".. أن يصدروا صحفا جديدة يتولى إدارتها وجوه "جديدة" على دولاب الحكومة، كان لها أحيانا بعض المواقف "نصف المعارضة"، ولها رصيد معقول من "المهنية"، لتقدم طبخة "جديدة" لعلها "تخيل" على القراء، وتم نسف حمام "مايو" القديم، واستبداله بحمام آخر، واختلقت من مؤسسة "روزاليوسف" ذات التاريخ "اليساري" النقدي المعارض منذ أيام العظيمة فاطمة اليوسف مطبوعة أخرى، وكان الهدف التالي من مشروع "الصحف الجديدة الملتبسة" هو "الغلوشة" على الصحف المعارضة والمستقلة بسحب شريحة من قرائها ولا مانع أيضا من تشويهها والدخول في معارك رخيصة معها.
وكانت النتيجة هي تلك الجملة التي كنا نسمعها أحيانا في الراديو –قبل مجيئ الإنترنت- عند إذاعة نتائج الثانوية العامة، "مدرسة الحزب الوطني.. لم ينجح أحد"، أرقام التوزيع في الحضيض، المصداقية غير موجودة، الصدى في الوسط الصحفي متواضع، وصورة الحزب كما هي من سيء إلى أسوأ في أذهان الناس، وصحف المعارضة واصلت ارتفاع أسهمها لدى القارئ.
المشكلة إذن ليست في "الحمام القديم" والحل ليس في نسف الحمام واستبداله بآخر جديد، وإنما المشكلة في البيت كله.. إنشاء صحف واستخدام أبواق إعلامية وتوظيف إعلاميين ناجحين في برامج لتلميع "الحكومة والحزب" لا يمكن أن يغير صورتهما في أذهان الناس، وإنما تغيير سياسة الحكومة والحزب، وربما تغيير الحزب نفسه هو مايمكن أن يقنع أحدا بأن هناك أمل كما يرى كثيرون، وإن كنت شخصيا لا أرى في ذلك حلا.. "فالسوسة -كما يقول الصديق حمدي عبد الرحيم- في الجدر"، لا بد من اقتلاعه أولا.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008