Thursday, January 11, 2007

أمريكا تغوص في رمال متحركة*


يبدو أن "العجز" هو العنوان الأكبر لرؤى السياسة الخارجية الأميركية لحل مشاكل الشرق الأوسط، أو بالأحرى لتحقيق الحد الأقصى من المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة! وهو أيضا العنوان الأبرز للرؤى الداخلية أيضا، والتي تعنى بالأساس بإبقاء الوضع الراهن، وليس تخيل واستشراف واقع أفضل مغاير؛ إذ لا توجد قوة أو دولة تستطيع منفردة السيطرة لزمن طويل على السياسات والمجتمعات العربية، أو الشرق الأوسط الكبير كما يحلو لأدبيات السياسة الخارجية الأميركية تسميته هذه الأيام، والتي هي بدورها مازالت عاجزة حتى الآن عن فهم هذه الحقيقة الصعبة، وغير قادرة بالتالي على تحويلها إلى سياسات يمكن أن تحمي مصالح أميركا في المنطقة كما تتصورها!

لا توجد قوة منفردة -لا القوة العسكرية الأميركية أو الإسرائيلية، أو النفوذ الإيراني المتزايد، ولا الثروة النفطية الخليجية، ولا المواقف الأخلاقية للأمم المتحدة، ولا سنة العراق الذين تؤيدهم متأخرا قليلا عدة دول عربية- تستطيع أن تفرض نفسها طويلا على منطقة تقبع تحت وطأة نظام سياسي واجتماعي متهالك، في حالة أقرب إلى الموت، ومازالت في انتظار ولادة متعسرة لنمط جديد من الإدارة السياسية والاجتماعية لمواردها وبشرها.

هذه هي الخلاصة الأعمق –تقريبا- للعديد من الندوات والمنتديات السياسية التي عقدت في المنطقة وحولها في الفترة الماضية، بعد أربع سنوات من الاحتلال الأميركي الأحمق للعراق تحت شعار "دعائي" لا علاقة له بالتركيبة الذهنية والاجتماعية والعرقية للمجتمع العراقي، وهو شعار "نشر الديمقراطية" في المنطقة! وهذه هي الخلاصة الأكثر وضوحا في الحالة الفلسطينية، بعد أربعين عاما تقريبا على "انتصار إسرائيل الكاسح" على العرب في ما نسميه "نكسة" أو هزيمة 1967، واحتلالها الاستعماري لما تبقى من الأراضي الفلسطينية! وهي خلاصة واضحة أيضا – مع قدر من التأمل- في الحالة الإيرانية، من خلال تراجع شعبية حكام إيران الذين يتوهمون أن لديهم "قدرة هائلة على التدخل" في المنطقة، وكذلك من خلال عدم قدرة أنظمة عربية حاكمة على اتباع استراتيجية جديدة عصرية تضمن بقاءها في الحكم بعيدا عن استراتيجية "ضرب الشعوب" حتى درجة الاستسلام المطلق!

وعلى الرغم من ملامح تغير نسبي في رؤى النخبة السياسية في الولايات المتحدة، لضرورة الاستعداد لمرحلة جديدة من "توازن القوى" في الشرق الأوسط والعالم، مازالت الولايات المتحدة تبدو عاجزة عن الفهم، أو تقديم مبادرات متوازنة تحل المشاكل بعيدة المدى ولا تتركز فقط على المشاكل الآنية، بحيث يبدو أن أميركا ستغادر المنطقة، التي تعودت على دفن الغرباء و"مبادراتهم" في رمالها المتحركة، من دون أن تستوعب الدرس.

فمازال النقاش الدائر حاليا داخل الإدارة الأميركية يتمحور حول نشر 10 آلاف جندي إضافي أو ما هو أكثر أو أقل من ذلك العدد، أو حول تكتيكات لإبعاد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، أو حول كيفية إقناع روسيا بدعم العقوبات الرمزية ضد إيران. أما تقرير لجنة "بيكر-هاملتون" حول الأوضاع في العراق، فيوشك أن يُستخدم كسيناريو لتغطية انسحاب أميركي –جزئي- يمكن تحميل المسؤولية عنه لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي!

والموقف العربي من "العنصر الوافد الجديد" والمؤثر بقوة في معادلاتهم الإقليمية: إيران، إلى جانب آخرين من آسيا الصاعدة، يكاد يلخصه مشهد المؤتمر الاستراتيجي "حوار المنامة" الذي نظمه "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" البريطاني بالبحرين مؤخرا، وحضره ممثلون "جدد" أيضا إلى المنطقة العربية، بحكم "مصالحهم الجديدة المتزايدة"، مثل مستشار الأمن القومي الهندي ونظيرته اليابانية، ومبعوث الصين الخاص إلى الشرق الأوسط.

المؤتمر تنظيم بريطاني، واستضافة عربية، ووافدون جدد، من بينهم أيضا ممثل إيراني رفيع المستوى، هو وزير الخارجية الإيراني، فيما غاب ممثل الإدارة الأميركية ليترك الاضطراب في واشنطن حول سياستها في العراق يتحدث عن نفسه.

ويتكثف التلخيص أكثر في مشهد أصغر داخل المؤتمر: مسؤولون عرب في استقبال رسمي، يشكون بمرارة من أن الولايات المتحدة لا تفعل ما يكفي لمواجهة التقدم الذي يحققه عملاء إيران في العراق، وفي أماكن أخرى في الخليج وفي لبنان. ثم، وفجأة، قطعوا مناقشتهم على عجل ليسارعوا إلى تحية مجاملة ودودة لوزير الخارجية الإيراني مانوشهر متكي لدى دخوله المكان! والذي أكد في ثقة لاحقا أن "إيران تتقدم وأميركا تنهزم"، وأن "زمن السياسة الخارجية الأحادية قد انتهى".

إنه مشهد رمزي يستحق التأمل بالفعل.
* المقال منشور بجريدة الغد الأردنية بتاريخ 11 يناير 2007