ayman

لم يكن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يتنبأ وإنما كان يحذر عندما قال في اجتماع مهم للغاية للجنة التنفيذية العليا في 3 أغسطس 1967 إن "النظام (السياسي) المقفول سيؤدي بنا في النهاية إلي نظام توريث.. (ومن) الضروري أن نغير نظامنا بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص أو لشلة غير واعية أو جاهلة سياسيا أن تحكم البلد"، عبد الناصر وقتها كان يريد تغيير نظام "الحزب الواحد" الذي أدى –ضمن أسباب أخرى- إلى هزيمة 1967، وكان يطرح أفكارا عن ديموقراطية حقيقية، وقيام حزب معارض جاد يمكنه تداول السلطة، ويفتح الباب أمام حرية المجتمع.

وبغض النظر عما إذا كان عبد الناصر وقتها جادا فيما يطرحه من أفكار وانتقادات يوجهها للنظام الذي أدى للكارثة أم لا، فإن اقتراحاته رفضت بالإجماع، وسار الحال على ما هو عليه، ولم تؤد ديموقراطية السادات الشكلية الجوفاء إلى أي تغيير حقيقي.. وبعد سنوات من وفاة عبد الناصر وفي لحظة عصيبة –لا تشبه بالضرورة هزيمة يونيو 67- دعت سيدة مرموقة إلى اجتماع هيئة ترقى في أهميتها إلى مستوى اللجنة التنفيذية العليا أيام عبد الناصر، فسألها مسئول كبير عن أسباب دعوتها إلى عقد ذلك الاجتماع وصفتها الرسمية في حضوره أيضا، فحدثت مشادة عنيفة انسحب في إثرها ذلك المسئول من الاجتماع بعد أن احتوت ألفاظ المشادة كلمات مثل "الدوس بالجزمة.. ومن يقف في طريقنا هنعمل فيه ونسوي". وبعد شهور أقيل ذلك المسئول الرفيع من منصبه.

وليست نبوءة وتحذير عبد الناصر وقصة ذلك "الاجتماع العاصف" بجديد على تاريخ مصر العريق، الذي شهد أكثر من مرة سيطرة نساء على الحكم، إما مباشرة بتوليهن السلطة رسميا أو من وراء حجاب، بل إن ملابسات تلك السيطرة تكاد تتشابه في العديد من الحالات، كأن يكون الملك ضعيفا أو مريضا، أو يكون الوريث على العرش قاصرا، أو شابا لاهيا منساقا وراء أمه، أو أن تكون النخبة المحيطة بالحكم أضعف من أن تواجه الاستيلاء غير الشرعي على مقاليد الأمور في الدولة، وفي كل الحالات تقريبا أن تكون المرأة القريبة من الملك أو السلطان متعطشة للسلطة والسيطرة.. وليس عيبا بالطبع أن تتولى امرأة شئون دولة ما، فالعالم ملئ بنماذج ناجحة جاءت بشكل طبيعي، ولكن العيب بالتأكيد هو أن تكون تلك السيطرة قسرية غير شرعية، فالنتيجة المتوقعة في الغالب نهاية غير سعيدة، واضطراب في شئون الملك والرعية.

من الأسماء الشهيرة في تاريخ مصر الملكة حتشبسوت والملكة كليوباترا ونفرتيتي زوجة إخناتون وشجرة الدر زوجة الملك الصالح، وست الملك أخت الحاكم بأمر الله وزليخا زوجة عزيز مصر، لكن شيخ المؤرخين المصريين أحمد بن علي المقريزي يفاجئنا بأسماء مثل "تدرورة.. ونونية.. ودُلوكة"، وهو لم يحدد الزمن الذي عشن فيه بدقة وإن كان الأغلب أنه أواخر العصر الفرعوني وبدايات العصر اليوناني-الروماني، ويمكننا في تلك القراءة السريعة لتاريخ نساء حكمن مصر أن نبدأ بقصص المقريزي لطرافتها، علها تخفف وطأة الأيام التي يعيشها المصريون حاليا، وعلها تنبئهم بالمستقبل، فالماضي -إن ظلت عناصره الحاكمة قائمة- ليس إلا صورة شبيهة بالحاضر والمستقبل أيضا.

يقول المقريزي (760- 845 هـ) إن "مصر كان يحكمها رجل اسمه مرقورة وكان كاهنا وحكيما وكان أول من ذلل السباع وركبها وملك من بعده ابنه بلاطس.. وكان صبيا فدبرت أمه أمر الملك وكانت حازمة فأجرت الأمور علي أحسن ما يكون وأظهرت العدل ووضعت عن الناس الخراج فأحبوها ولما كبر ابنها أحب الصيد فعملت له أمه أعمالا عجيبة وأقام ملكا ثلاث عشرة سنة، و"أصابه الجدري" فمات وانتقل الملك إلي أعمامه". فملك بعده أتريب بن قبطيم بن مصرايم وهو الثالث عشر من ملوك مصر بعد الطوفان وهو الذي بني مدينة أتريب.

ويقال إن النيل وقف في أيام أتريب ١٤٠ عاما حتي أكلت البهائم بأرض مصر ولم يبق بها بهيمة ومات عامة أهل مصر جوعا ثم أغيثوا بعد ذلك وكثر الرخاء ودام مائتي سنة، ولما مات أتريب اتهموا أخاه بقتله وحاربه أهل مصر تسع سنين وقتلوه فملكت بعده ابنته تدرورة، وكانت كاهنة ساحرة فساست الملك أحسن سياسة ودبرت الملك أجود تدبير، وعملت طلسمات عجيبة منها طلسم منع الوحش والطير أن يشرب من النيل حتي مات أكثرها عطشا ووقعت في زمانها صيحة ارتجت لها الأرض فهلكت.

ثم صار الملك إلي صابن قبطيم، فلما مات ملكت بعده "نونية الكاهنة"، وكانت ساحرة فكانت تجلس علي سرير من نار، فإذا تحاكم إليها أحد وكان صادقا شق تلك النار دون أن تضره، وإن كان كاذبا أخذته تلك النار، وكانت تتصور كل يوم في صور كثيرة الأشكال، ثم احتجبت وبنت قصراً جعلت في سوره أنابيب نحاسية مجوفة وكتبت علي كل أنبوب فنا من الفنون التي يتحاكم الناس بها إليها "يعني كل أنبوب متعلق بشأن من الشئون".

ويتابع المقريزي في قصصه التي تشبه الخيال أن ابن عبد الحكم قال "لما أغرق الله فرعون مصر بقيت مصر بعد غرقه ليس فيها من أشراف أهلها أحد ولم يبق إلا العبيد والأجراء والفشاء، فأعظم أشراف من بمصر كن من النساء، وقد أجمعن علي تولية واحدة من بينهن، فكانت "دلوكة بنت فاران" وكان لها عقل وتجارب ومعرفة، فبنت جدارا حصنت به مصر من الأعداء، وكان من حد زنج إلي أفريقيا إلي الواحات إلي بلد النوبة، وفي أيامها بنت تدرورة الساحرة البرابي في وسط منف، فملكتهم دلوكة عشرين سنة، حتي بلغ صبي من أبناء أكابرهم يقال له "دركون بن بلاطس".

والقصة الأخيرة تشير بوضوح إلى أن ندرة الرجال من الأشراف بسبب غرقهم في الطوفان دعت النساء إلى أن يخترن واحدة منهن لتولى شئون البلاد، وليس الأمر على هذا النحو في حالات أخرى مثل قصة شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، التي يستفيض المؤرخون عادة في ذكر مزاياها وبطولاتها، والتي كان الخطباء يدعون لها على المنابر بألقاب "الجهة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجميل والستر الجليل، والدة المرحوم خليل"، لكنهم لا ينسون أيضا شبقها للحكم والسلطة وقوة شخصيتها، وصراعها مع ابن زوجها توران شاه، وغيره من كبار المماليك.

عاشت الملكة شجرة الدر ـ والتي كانت جارية تلقاها الملك أيوب هدية من الخليفة العباسي المستعصم بالله- أزهي فترات حياتها عندما تزوجها نجم الدين أيوب وصارت خير عون له في أمور الدولة وتوجت شجرة الدر قيادتها لمصر بانتصار ساحق علي لويس التاسع ملك فرنسا.

يقول المؤرخون إن شجرة الدر لجأت إلي الحيلة لتخفي نبأ وفاة الملك الصالح عن الجميع إذ وافاه الأجل منذ تقدم فرسان الصليب إلى دمياط، وكانت تدرك أن المماليك لو كانوا علموا بنبأ وفاة الملك لانفرط عقدهم بل ربما وصل الأمر بهم إلى التناحر، واستدعت الملكة الأمير فخر الدين أتابك العسكر والطواسي جمال الدين محسن واتفقت معهما علي إخفاء موت السلطان وتوليها شئون المملكة إلي أن يحضر توران شاه ابن الملك الصالح من قلعة كيفا في الضفة الغربية من نهر الأردن، وراحت تصدر الأوامر بخاتم الملك الصالح، وكان طعام السلطان المتوفي يدخل إلي غرفته علي أن وعكة صحية ألمت به وتقوم هي مقامه في استقبال رجال الدولة من خلف حجاب، وبهذه الحيلة انتصرت شجرة الدر في موقعة المنصورة على الصليبيين وحافظت علي كيان الدولة الأيوبية إلي أن عاد ابن زوجها توران شاه فسلمته مقاليد الأمور وبدأ يشرف علي شئون الحرب بنفسه.

ولكن توران شاه لم يتمكن من استمالة فرسان المماليك وأضمر لهم الغدر، وراح يستبدل مماليك أبيه برجاله وجنوده في مناصب الدولة، وظل يضيق الخناق علي شجرة الدر ويتوعدها لتقر له بمال أبيه وهي ترفض حتي نفذ صبرها وصبر مماليك الملك الصالح فأرسلت إليهم من يقول "اقتلوا توران شاه.. وعلي رضاكم"، وكان اختيار المماليك زميلتهم المملوكة لتكون سلطانة عليهم في عام ١٢٥٠ ميلادية ليبدأ بعدها زمن المماليك البحرية.

وأمام اعتراض الخليفة العباسي وامتعاضه من تولي امرأة شئون الرجال في مصر تحايل المماليك علي تهديده بإرسال رجل يحكمهم، بأن خلعت شجرة الدر نفسها من السلطنة وتزوجت من التركماني عز الدين أيبك، لكنها ظلت مسيطرة على الحكم تاركة لأيبك المسئولية عن العسكر.

وما لبث أن دب الخلاف بين رجل في ربيع عمره وزوجة في خريفه، على الرغم من رضوخه لها واحتمال جبروتها زمنا طويلا حتى أنه طلق زوجته أم ولده منصور، علي أمل أن تكشف له عن كنوز زوجها السابق الملك الصالح أيوب، وحاول أيبك أن يرفه عن نفسه فخطب ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وعلى الفور دبرت شجرة الدر قتله بأن أمرت خمسة من خدامها الأشداء فقتلوه داخل الحمام خنقا وتقول رواية أخرى أنها ضربته مع رجالها بالقبقاب علي رأسه حتي فارق الحياة.

ولم تكن تلك الميتة الميلودرامية حكرا على أيبك، فما أن تولي ابن أيبك من زوجته الأولي "سلطنة مصر" حتي أرسل مماليكه يحققون في مقتل أبيه، فقبضوا علي القتلة و"قرروهم" وحبسوا شجرة الدر في البرج الأحمر بالقلعة واقتيدت إلي أم علي ضرتها التي طلقها أيبك نزولا علي رغبة شجرة الدر فأمرت جواريها بضرب شجرة الدر بالقباقيب حتي الموت، ثم سحبوها من رجلها ورموها من فوق السور إلي خندق القلعة عارية ليس عليها سوي ما يستر عورتها فظلت مرمية في الخندق ٣ أيام تنهشها الكلاب إلي أن هبط بعض الحرافيش في جنح الليل وقطعوا "دكة" ما يستر عورتها لأنها كانت من حرير أحمر، وفيها كرة من اللؤلؤ وبعد انقضاء الليالي الثلاث حملوها في قفة ودفنوها في تربتها عند مدخل قرافة الإمام قرب مقام السيدة نفيسة.