Thursday, June 29, 2006

العلم المنبوذ


المقال نشر في صحيفة الغد الأردنية بعنوان -"العَلَم" المشكلة
بتاريخ 29 يونيو 2006


الأرجح أن كثيرا من الإسرائيليين غمرتهم الفرحة عندما شاهدوا "لاعبا غانيا إفريقيا" يرفع علمهم في بطولة كأس العالم لكرة القدم، والأرجح أنهم سرعان ما صدموا جراء سلسلة الاعتذارات التي سارع الفريق الوطني الغاني واتحاد كرة القدم الغاني ووزارة الخارجية الغانية بإرسالها إلى جامعة الدول العربية والعديد من وزارات الخارجية العربية، فهم يتصورون أن ما فعله اللاعب الغر "حق مطلق له ولهم أيضا، فعلمهم يستحق أن يرفع في أي مكان وربما بدون أي مناسبة"، وأن أولئك العرب الغاضبين من مشاهدي كأس العالم لا يحق لهم الغضب، وأن غيرهم من المواطنين العالميين الذين استهجنوا واستغربوا وربما سخروا من "المفارقة" لا يحق لهم "الاستهانة" بعلم إسرائيل "العظيم"!

طرفة كأس العالم الأولى من نوعها تقريبا والتي يرفع فيها لاعب تعبيرا عن فرحه بفوز منتخب بلاده علم "دولة" أخرى، وردود الأفعال الإسرائيلية عليها من مشاعر أشخاص عاديين إلى تعليقات صحف، تمثل عنوانا جيدا للعقدة الإسرائيلية التي صدرها الغرب الاستعماري إلى العالم العربي مع بداية القرن العشرين وانتهاء بعام 1948، والتي لم يفلح أحد في حلها بل شارك كثيرون في تعميقها: غرباء منبوذون مضهدون في بلادهم يرحلون قصرا ومؤامرة وإغراء إلى أرض الآخرين ليقام لهم فيها وطن بالغصب والقوة الغاشمة، ولا يكتفى بذلك بل تُختلق لهم أيديولوجية دينية من عصور ما قبل الميلاد لتكون لهم هوية عاصمة من الانفراط في محيطهم الجديد، وتبعث لهم من عالم الأموات لغة يدخلون إليها رغم اختلاف ألسنتهم ومشاربهم عنوة، ويشارك القادمون منهم من الغرب خصوصا بإضافة الغرور إلى "بوتقة الصهر الحديدية" التي لا تسمح بأي جنوح أو تمرد على هوية المنبوذ المضطهد الذي يشعر بخطر دائم، ويسعى إلى التهويل من أي تهديد بسيط ويبالغ بشدة في حماية نفسه والحاجة إلى الأمن.

والطريف أيضا أن صناع بوتقة الصهر الإسرائيلية من مؤسسي "الدولة اليهودية" الموتى والأحياء منهم يرفعون شعار "تطبيع العلاقات" مع الدول العربية بينما لا يجرأون على التفكير في تطبيع ثقافة شعبهم وفق بيئته الأولى التي يدعون أنه عاد إليها، ويواصلون بناء الجدار حول أنفسهم ويحاصرون ذواتهم وكأنهم يستعيدون معازلهم القديمة لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بالواقع المغاير، بأنهم: "بشر عاديون وليسوا أبناء آلهة ولا مختارين بعناية إلهية ليسودوا العالم، وأنهم يمكنهم العيش في سلام لو تصالحوا مع البيئة الإنسانية المحيطة، مع جيرانهم العرب الذين لا يعرفونهم حق المعرفة وربما لا يريدون أن يعرفوهم خشية أن ينصهروا فيهم أو يكتشفوا حجم خطأهم التاريخي في حق أنفسهم كجلادين وفي حق الآخرين كضحايا".

مازالت العقدة الإسرائيلية مسيطرة على المشهد "اليهودي في الشرق الأوسط" حتى أن "الرئيس السابق لقطاع العمليات بالجيش الإسرائيلي والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي والمعني بصياغة الاستراتيجية الوطنية" –وليس كاتبا من كتاب الخيال العلمي أو أدب الواقعية الخيالية- يتبنى مخططا "لضم 600 كيلو متر مربع إلى غزة من سيناء لبناء مطار دولي وميناء ومدينة يسكنها مليون فلسطيني مقابل شريط من النقب مساحته 150 كليو مترا مربعا، وأن تضم إسرائيل إليها 12 بالمئة من الضفة الغربية ما يساوي 600 كيلو متر مربع كي يمكنها الحفاظ على أمن إسرائيل ضمن حدود يمكن الدفاع عنها".

والحقيقة أن كثيرا من "المؤسسين الحالمين في إسرائيل" من بن جوريون وحتى شارون كان لهم مخططات "عبقرية" أثبت التاريخ أنها لا تخلو من هزل.. شارون (الذي قاد غزو لبنان عام 1982 عندما كان وزيرا للدفاع كان لديه مخطط لتغيير وجه المنطقة: إخراج السوريين من لبنان وتدشين دكتاتور ماروني مسيحي (بشير الجميل) ونقل الفلسطينيين من لبنان إلى سوريا ومنها إلى الأردن وتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية تحت رئاسة عرفات والتفاوض مع الحكومة الفلسطينية في عمان حول مستقبل الضفة الغربية! وقد أثبت التاريخ حجم الهزل: السوريون لم يخرجوا من لبنان إلا العام الماضي، والفلسطينيون الذين خرجوا إلى تونس وليس إلى سوريا فالأردن عادوا إلى الضفة الغربية وغزة، وخرج الإسرائيليون مهزومين من لبنان، وهم يكابدون الآن "آلام أحلامهم التاريخية".