Tuesday, November 24, 2009

ثم ماذا بعد؟

مصر الرسمية مرتبكة.. ومصر الشعبية مجروحة في كرامتها ولاعبو الكرة أصبحوا منظرين سياسيين!

ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد واقعة 18 نوفمبر في أم درمان السودانية.. هل تظل إلى الأبد تلك الحملة الإعلامية المتبادلة بين صحف الحكومة المصرية وقنواتها الإعلامية والفضائيات الخاصة من جانب والصحف الجزائرية من جانب آخر؟

لو أنك تتابع الصحف الجزائرية لقرأت مثلا سبابا للمصريين.. كل المصريين "أحفاد وأبناء سامية جمال وتحية كاريوكا وفيفي عبده" حسب تعبير جريدة الشروق في مقال يقارن بين الجزائريين "أحفاد جميلة بوحريد" والمصريين! إلى هذا المستوى وصلت حقارة الحملة الإعلامية.

وفي مصر أيضا بلغت السفالة مستوى غير مسبوق.. إعلامي يتصل ببرنامج "البيت بيتك" على الهواء مباشرة ويقول "بصراحة.. إحنا منعرفش الجزائريين غير من حريمهم"، (ولا داعي لمزيد من التوضيح)، فيضحك تامر أمين وخيري رمضان مقدما البرنامج، ولا يقول أحدهما " عفوا.. كده عيب".

نعم ما حدث في شوارع أم درمان والعاصمة السودانية الخرطوم عقب المباراة - حسب شهادة الشهود – مهين وجارح لكرامة الجمهور الذي ذهب لتشجيع المنتخب الوطني ولكافة المصريين، ويستحق وقفة وإجراءات عملية لإزالة آثاره ومنع تكراره، لكنه لا يقتضي أبدا تعميق مشاعر الكراهية وإصدار أحكام عامة وتأليب رغبات وغرائز الثأر والانتقام.. ففي ظل هذا الكم الهائل من الشحن الإعلامي يصعب أن يندمل جرح الإهانة، وتحتاج إعادة العلاقات الودية بين الشعبين – وليس فقط جمهور الكرة متواضع الوعي قليل المعرفة بالتاريخ – إلى فترات أطول.

خذ مثلا.. على شاشة التليفزيون طالب أحدهم بتغيير اسم ميدان الجزائر في المعادي، وفي اليوم التالي دار هذا الحوار في ميكروباص:

السائق – اسمه خلاص اتغير بقى ميدان الجزيرة.

شاب من الركاب- لأ.. اسم الجزيرة ما ينفعش.. القناة القطرية دي تبع إسرائيل.. إنت متعرفش إن إسرائيل ليها 13 قاعدة عسكرية في قطر!

(ولك أن تتأمل ضحالة معلومات المشجع الكروي الشاب – قطر بها قواعد عسكرية أمريكية ومقر القيادة المركزية الوسطى وقد انتقل إليها من السعودية بعد حرب الخليج الثانية في 1991)

كنا قد وصلنا إلى ميدان الجزائر بالفعل، وأشار السائق إلى لافتة مكتوب عليها "ميدان الجزيرة" ورقة بيضاء مطبوعة على الكمبيوتر ألصقها مشجع كروي في الغالب على أحد الجدران في الميدان!

هي برامج إعلامية فاشلة، القائمون عليها ضعيفو الأداء محدودو المهنية، وبينهم شتامون بالدرجة الأولى يفتقدون للحس السياسي فيلجأون للإثارة وركوب الموجة، بغض النظر عن النتائج على المدى القريب أو البعيد، المهم أن ترضى القيادة السياسية التي وجدت نفسها عاجزة وظهر ارتباكها واضحا، لأنها لم تستعد جيدا لموقف متوقع.. فالعنف لدى جماهير الكرة الجزائرية ظاهرة معروفة منذ زمن طويل، حتى في مباريات محلية وودية في الجزائر نفسها.

الأسوأ أن يجلس لاعبو الكرة وإعلاميو البرامج الرياضية في كراسي منظري السياسة، فيعلنون وفاة القومية العربية وانتهاء زمن العروبة، والأنكى أن يشاركهم منظرون سياسيون تابعون للحزب الحاكم في ذلك "الإعلان الغبي"، ويرفعون دعوة بأن "تلتفت مصر إلى الداخل وإلى مصالحها"، أن تتوقف عن الانتماء العربي "لأن العرب يكرهون مصر" ثم يقول مفكر حكومي بارز – رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب د.مصطفى الفقي – "العرب لا يحبون ولا يكرهون.. وإنما يهابون.. ويجب أن يهاب العرب مصر هم الذين دفعونا لهذا".

أحاديث أقرب إلى المساخر السياسية، وكأن أقدام لاعبي كرة القدم أصبحت هي التي تفكر! وكأن مصر مازالت بعد لم تفارق ستينات عبد الناصر عندما أرسل الجيش المصري إلى اليمن ليدعم ثورته، أو بعث مدرسين إلى الجزائر لتعريب مدارسها، وإزالة إرث الاستعمار الثقافي وتدشين هوية عربية في الأجيال الجديدة.

هؤلاء الذين يتحدثون عن ضرورة "تطليق" العروبة لا يدركون معنى أن تصبح علاقات مصر بالجزائر سيئة، وبالسودان مهددة بالتوتر، وبسوريا متدنية وبلبنان مرتبكة وبقطر عصبية وبحماس واهية.. لا يعرفون أن دور مصر الدولي يعتمد على مدى تأثيرها في محيطها العربي، وأن قوة مصر مرهونة بحضورها في العالم العربي، وأن فكرة عبد الناصر "القومية العربية" – وبغض النظر عن أي تحفظات على أسلوب أدائها بعد كل هذه السنوات – كانت بالأساس مشروعا استراتيجيا لتأمين مصر، وتدشين حدود دفاعية – سياسية وثقافية وعسكرية أيضا- في مواجهة الاستعمار أولا ثم الهيمنة الخارجية ثانيا.. وأن ما ترسخ في أذهان صناع السياسة الخارجية المصرية على مدى أجيال من تلك المرحلة "العروبية" أن تلك الفكرة هي رؤية صحيحة عمليا بغض النظر عن الأيديولوجيات، وأنها تصب في خانة المصلحة المصرية الخالصة، وتصب أيضا في مصلحة الدول العربية.

هؤلاء لا يعرفون أن روح انتصار أكتوبر التي طالب أغبياء محدودو الفكر أن نتحلى بها في معركة كرة القدم مع الجزائر كانت وليدة حالة غير مسبوقة من التضامن العربي والتنسيق العربي المشترك، ليس فقط على المستوى السياسي بل والعسكري والاقتصادي.. وكانت الجزائر تحديدا في مقدمة الدول العربية الداعمة لحرب أكتوبر إلى جانب العراق والسعودية واليمن والكويت والإمارات....

السؤال عن ماذا بعد؟ يقتضي أيضا السؤال عن ماذا قبل.. عن أسئلة بديهية.. لماذا لم يلتق الرئيسان المصري والجزائري قبل مباراة القاهرة في 14 نوفمبر ليصدرا بيانا مشتركا أو يعقدا مؤتمرا صحفيا يقولان فيه كلاما بسيطا للغاية.. هي مباراة لكرة القدم سيخرج أي من الفريقين فائزا.. وأي منهما سيمثل عرب إفريقيا في المونديال العالمي.. لماذا لم يتصل مبارك وبوتفليقة هاتفيا على الأقل قبل المبارة الأولى أو حتى قبل المبارة الثانية لكي تهدأ الجماهير الكروية بدلا من شحنها إلى أقصى مدى وكأن المسألة حياة أو موت.. حياة من وموت من؟ لماذا لم يوقفا التحريض الإعلامي في مصر والجزائر قبل أن تحدث واقعة الخرطوم- أم درمان.. والتي كانت مرشحة لسيل من الدماء لو فازت مصر!!! أم أنهما تحادثا هاتفيا ولم يتفقا على شيء كما يتردد في الكواليس السياسية؟

في اليوم التالي لمباراة القاهرة قال لي صحفي جزائري شاب "لو فازت مصر في المبارة الفاصلة أو لم تفز ستحدث مجزرة للجمهور المصري في السودان فالجزائريون –يقصد الجمهور- ذاهبون للانتقام"!، وقبيل المبارة أيضا قال شهود عيان من صحفيين ومسئولين مصريين في السودان إن الجمهور الجزائري اشترى أسلحة بيضاء بكميات كبيرة.. فأين كان المسئولون عن أمن الجمهور المصري المسافر إذن؟ أين كان من يتشدقون الآن بأن أمن المواطن المصري في الخارج مسئولية الدولة؟ هل كانوا في غيبوبة، أم أن البيروقراطية تعطل اتخاذ قرارات مهمة أو تفوت عليها الوقت حتى يصل الأمر للرئيس شخصيا، أين كانت أجهزتنا الأمنية العظيمة.. أين اهتمامها ومتابعتها خاصة أن ابني الرئيس شخصيا كانا بصحبة الجمهور.. وماذا لو كان موكبهما قد تعرض – لا سمح الله – لأذى، أو حوصرا في فندق أو منزل كما حدث للمطرب محمد فؤاد وعدد كبير من الجماهير الكروية؟

من يتحدث الآن عن أمن المواطن المصري في الخارج ينبغي أن يعترف بأنه مقصر من البداية، وأن كارثة أسوأ كان يمكن أن تحدث!!

لا أعرف لماذا تذكرني مشاهد البلطجة في العاصمة السودانية يوم 18 نوفمبر – حسبما يرويها شهودها- بمشاهد حدثت في مصر في الانتخابات البرلمانية 2006.. بلطجية ومسجلون خطر يحملون السنج والمطاوي والسيوف ليمنعوا الناخبين من الإدلاء بأصواتهم!

نظام في القاهرة يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد الانتخابات، ونظيره في الجزائر يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد مباراة في كرة القدم والانتقام لقذف سيارة لاعبيه بالطوب أو لقتلى مزعومين بين مشجعيه في المباراة الأولى في مصر!

هل من أوجه تشابه أخرى.. نعم هناك.. ما السبب في هذا الدعم الهائل والحشد المعنوي غير المسبوق من أجل انتصار في مباراة لكرة القدم يفترض دائما أنها قد لا تأتي بالنتيجة المرجوة.. فأكبر الفرق وأحرفها تتعرض لخسائر غير متوقعة حين لا يحالفها الحظ أو التوفيق! لماذا الرهان على رمية كرة أو رمية زهر! هل انعدمت إنجازات النظامين السياسيين إلى هذا الحد! (لك أن تراجع أرقام من يعيشون تحت خط الفقر في مصر والجزائر.. النسب مخيفة.. عشرات الملايين على الجانبين)، أم أن النظامين في القاهرة والجزائر اعتادا تلهية الجماهير بانتصارات "مصطنعة" تخفف عبء حياتهم اليومية البائسة.. تسكت أوجاع البسطاء بالأوهام وتؤهلهم للالتفاف حول قيادات سياسية فاسدة قادمة أو مستقرة على كراسيها منذ زمن بعيد!

المشهد مؤسف بجدارة.. الفنانون المصريون يقاطعون الجزائريين، وهيئات التدريس في الجامعات والأزهر تقاطع نظيراتها في الجزائر، والرياضيون أول المقاطعين.. وأصحاب الأعمال التجارية يخشون على رؤوس أموالهم واستثماراتهم.. فماذا سيفعل السياسيون! يسحبون السفراء ويواصلون الضغط الشعبي والدبلوماسي، ويحاول كل جانب استمالة العرب الآخرين إلى صفه!

ثم ماذا بعد؟ متى يتحكم العقل؟ متى يتوسط أحد "العقلاء العرب" لكي يجمع بين مبارك وبوتفليقة في مصر أو الجزائر أو ليبيا أو السودان لكي "ينهوا أزمتهما وأزمتنا معهم"، لا أتوقع ولا أتمنى بالطبع أن تتوسط إسرائيل كما تندر أحد الساخرين.

أيمن شرف – اليوم السابع ديسمبر 2009

لقاء مع الرئيس

في أول أيام عيد الأضحى عام 1977 خرج مجموعة من الأصدقاء.. صبية في الخامسة عشرة من أعمارهم من قريتهم الصغيرة بمحافظة المنوفية.. وقفوا على الطريق الزراعي ينوون السفر إلى المركز ليقضوا فسحة العيد.. يركبون قاربا في أحد فروع النيل.. وربما يدخنون السجائر بعيدا عن أعين أهاليهم ومعارفهم.. لكنهم وجدوا "أتوبيس" يقف على المحطة فارغا، لا كمساري ولا يحزنون، به أحد الموظفين بالمجلس القروي أغراهم بالسفر إلى القاهرة "تعالوا هتقابلوا الريس"، ولم يقل لهم أين أو متى.. فرحوا بالمغامرة.. وبرحلة إلى القاهرة.. "مصر" بلغة أهل الريف، بدلا من المركز المتواضع..

في اليوم السابق كان الرئيس أنور السادات على شاشة التلفزيون في القدس.. في تلك الرحلة المفاجئة العجيبة.. بكى أحدهم وهو يشاهد الرئيس يصافح موشي ديان بعينه المعصوبة، فقد كان يعتبره قاتل اثنين من الجيران شاركا في حرب أكتوبر 1973 وسميت مدرستان في القرية باسميهما مسبوقين بلقب الشهيد.. لماذا ذهب الرئيس؟ لم يكن عقله وقتها يستوعب ما عرفه لاحقا.. لكن مشاعر غضبه وحزنه توارت في اليوم التالي.. يوم العيد.. أمام مغامرة الرحلة المجانية من القرية إلى العاصمة.

لم يكن أحدهم يعرف معالم الطريق ولا نقطة الوصول، ولا قال لهم الموظف أين سيتوقف بهم الأتوبيس.. فرحوا بمشاهدة شوارع مسفلتة، وبيوت من الطوب الأحمر والأسمنت، وانتهى بهم المطاف في نحو العاشرة صباحا تقريبا في الصحراء على طريق المطار.. ما بين أحاديث فارغة مر الوقت، ووجدوا آخرين جاءوا من قرى ومدن أخرى بنفس الطريقة.

بعد ساعات قرصهم الجوع، فعطف على بعضهم أحد المجندين في معسكر قريب وأعطاهم ما علموا بعد ذلك أن اسمه "جراية".. عيش مقدد يحتاج إلى أسنان قوية لقضمه، وكانت النكتة أن معهم نقود "مصروف العيد" وليس هناك في هذه الصحراء ما يشترونه ليأكلوه.

أما الموظف الذي غرر بهم لكي يأتوا إلى هذه الصحراء فقد احتمى من أسئلتهم ولومهم هو والسائق بأن أغلقا على نفسيهما باب الأتوبيس.

انقضى وقت الظهيرة ووقت العصر، وأوشك المغيب، وبدأ القلق يساور الصبية على موعد الرجوع، وراحوا يتساءلون متى يأتي الرئيس؟ وفجأة سمعوا صوت موكب قادم من بعيد، تتقدمه موتوسيكلات لم يروا مثلها من قبل..

أقل من ثلاث ثواني كان موعدهم مع الرئيس السادات، فقد مرت السيارة بسرعة شديدة أمامهم، ما علق بذهنهم من وجه الرئيس ابتسامة براقة، لم يعرفوا سرها إلا بعد أن كبروا، كان المشهد تمثيليا من الدرجة الأولى، الرئيس كان يريد أن يؤكد للعالم ولنفسه ولكاميرات التليفزيون الرسمي التي تصاحبه أن رحلته تحظى بشعبية كبيرة، فصدرت الأوامر للمحافظين وللداخلية بتوفير جمهور على طريق المطار.. آلاف من الكومبارس الطبيعي المخدوع برحلة إلى القاهرة.

في ذلك الوقت.. أواخر السبعينات وحتى بداية الثمانينات كانت فكرة مواكب الرئيس التي تستقبلها حشود الجماهير على جانبي الطرق بالتهليل والتحية ماتزال معتمدة كوسيلة لتأكيد شرعية الرئيس، حب الناس العفوي والتفافهم حوله – حتى لو كان الجميع بمن فيهم الرئيس يعرفون أنها مجرد خدعة – مبرر لوجوده في السلطة.

لكن اغتيال السادات في أكتوبر 1981 – ومحاولات اغتيال مبارك فيما بعد - جعلت وجود الجماهير قرب الرئيس عبئا أمنيا، ونذير شؤم ربما، وأصبح الهاجس من إمكانية تكرار واقعة السادات مانعا قويا أمام فكرة "حشد الجماهير" لتعبر عن حبها "الكاذب" للرئيس.. وأصبح حضوره المفاجئ لمباراة في كرة القدم من وراء زجاج ضد الرصاص اختيارا مفضلا، فيما أصبحت زيارته لمستشفى تعني إخلاءه تماما من المرضى والأطباء واستبدالهم بآخرين يمثلون أدوارهم، وزيارته لمصنع تعني حصول العاملين فيه على إجازة يوم الزيارة.

لم يعد الرئيس يلتقي أحدا من المخدوعين برحلة للقائه، بل يلتقي فقط بمن يمثلون أمام الكاميرات دور الشعب.. وحسنا فعل فقد أراح الآلاف ربما من قرصة جوع يوم عيد، وخيبة أمل في الصحراء على طريق المطار.

أيمن شرف - صوت الأمة نوفمبر 2009

أين ذهب أسامة الباز؟


في شتاء عام 2000 وبعد خطوات من مدخل فندق إنتركونتننتال أبوظبي، وجدت د.أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس مبارك أو مدير مكتبه للشئون السياسية، هكذا كان لقبه وقتها.. يسير خارجا وإلى يساره فتاة أو سيدة في منتصف العمر، خمرية مصرية الملامح.. كنت على موعد لإجراء حوار معه، حدده الملحق الإعلامي لسفارتنا، ولم يكن الباز يعرفني بالطبع، لم أنتظر حتى ألتقي ملحقنا الإعلامي، واستوقفت الرجل في منتصف الردهة، عرفته بنفسي، فلان من جريدة الاتحاد الإماراتية، وألقيت التحية على السيدة، ودار بسرعة حوار حول واقعة نشر صحيفة إماراتية - كان الباز يظن أنها جريدة الاتحاد – تغطية لندوة كان يتحدث فيها الباز، نسبت إليه خلالها عبارة "اليهود.. ولاد الكلب"، أوضحت أنني لا أمثل جريدة الخليج التي نشرت تغطية الندوة تحت ذلك العنوان، فعاتبني كصحفي على النشر بتلك الصيغة.. ولم أرد أن أدخل في التفاصيل حول صحة الواقعة من عدمها، لكنني قيمت الموقف في إجماله، الباز لم يكن يقصد بالتأكيد أن يهين اليهود كأصحاب ديانة، وإنما كان يريد التعبير عن غضبه الشديد تجاه مسؤولين إسرائيليين وأخطأ التعبير، فما مكسب الصحيفة والقارئ والمشهد السياسي عموماً من نشر الكلام بهذه الصيغة؟ أليس من الأعقل في مثل تلك الحالة أن يحمي الصحفي مصدره أو المسؤول السياسي من زلة لسان يمكن أن تثير زوبعة لا لزوم لها، ويمكن أن يتخذها الإسرائيليون ذريعة لوصمه مثلاً بمعاداة السامية.. وأضفت أن الصحفي ومحرر الديسك الذي وافقه على ذلك غلبا الإثارة على التعقل..

في تلك الأثناء كنا قد غادرنا باب الفندق إلى الهواء الطلق، حيث الشتاء هو الفرصة الوحيدة للسير في شوارع أبوظبي، إحدى عواصم الخليج التي يتصبب فيها الزجاج عرقا من شدة الرطوبة والحرارة، فالأماكن المغلقة بلا اسثناء مكيفة الهواء، وعلى زجاج فاترينات المحلات وواجهات المولات والمباني يمكنك أن تلحظ قطرات المياه تتكثف في الداخل بسبب فرق درجة الحرارة وكأنها العرق..

ألمح الباز إلى أن السيدة بجواره قريبته.. ابنة عمته أو شيء من هذا القبيل، وكأنه يرد على سؤال ظن أنه يدور في رأسي، - والحقيقة لم يكن قد ورد على ذهني أي سؤال- ثم قال "لو انتظرتني ساعة سأجرى معك حوارا عشرة دقائق"، فأجبت ضاحكا "عفوا يا دكتور.. أنتظرك ساعة يبقى الحوار نصف ساعة".

أدهشتني بساطة الرجل وتلقائيته، فقد تعودنا من كبار المسئولين غير ذلك، لكنني توقفت بعد الحوار عند ذهنه المرتب، ومنطقية طرحه للقضايا وتحليله لعناصرها، وإلمامه بتفاصيلها، وأثار دهشتي أيضا مهارة المرور العابر عند المواقف المحرجة، تلك التي يتمتع بها الآلاف من أبناء مؤسسة الكهنة المصرية الذين عاصروا مئات الفراعنة، وجلسوا إلى جوارهم ينصحونهم ويقدمون المشورة لهم.. مهارة الحواة في التعامل مع كائن يتمتع بنفوذ وسلطات تتجاوز – أحيانا بل وغالبا – حدود عقله..

عندئذ تذكرت أيضا ما حدث عقب المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا، وقتها شهدت الصحافة الحكومية حالة من التسخين السياسي ضد النظام الحاكم في السودان باعتباره ضالعا في العملية أو أن منفذيها انطلقوا من السودان بدعم معنوي أو مادي من الزعيم الإسلامي حسن الترابي، وازدادت السخونة إلى حد التهديد بضرب السودان، فخرج أسامة الباز بتصريح محدد أن مصر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تهاجم السودان، بعدها قال الرئيس مبارك نصا "من قال هذا الكلام (...) مبيفهمش حاجة".

ورغم حدة الخلاف في 1995 كما تشير اللغة التي استخدمها الرئيس أمكن احتواؤه، فالباز محل ثقته منذ زمن، والأمر بينهما، وليس فيه أطراف أخرى على شاكلة ما سيحدث بعد عشرة أعوام في 2005، عندما اختفى من المشهد السياسي في هدوء يثير الدهشة لدى الكثيرين ممن كان تواضع الباز يثير إعجابهم، فيتبادلون حكي قصص عن عدم تكلفه وحرصه على الاحتكاك بالناس لا الانفصال عنهم، ويتمنون لو كانت سمة يتحلى بها الوزراء والمسئولون..

شخصيا أتذكر قصة حكاها لي زوج أختي المتدين الملتحي عن واقعة مر عليها الآن أكثر من عشرين عاما، كان مسافرا إلى الإسكندرية بالقطار، ولم يسعفه الوقت لكي يحجز تذكرة من شباك التذاكر، راح يبحث عن مقعد خالي، وفوجئ بأن شخصا يناديه لكي يجلس، وبسرعة عرف من ملامحه أن ذلك الشخص أسامة الباز، كان قد حجز لنفسه مقعدين، لكنه وجد مسافرا لا يعرفه يبحث عن مقعد فعزم عليه ملحا بالجلوس.

أربعون عاما تقريبا قضاها ذلك الرجل البسيط قرب مؤسسة الرئاسة.. كان قريبا من السادات وكان دائما إلى جوار مبارك، وملف القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل أول وأهم ملفاته.. ثم خرج دون إعلان.. فالخدمة في سلك الحواة والكهنة لا تعني إمكانية أن تبقى مستقلا برأيك طول الوقت، بل مستعدا لقبول ما لا تقبله، وأن تعتذر أحيانا عما قلته، أو تتراجع عن تصريح أدليت به، وعندما تكتشف أنك تؤذن في مالطة، وأن وجودك لم يعد مؤثرا من قريب أو بعيد، أو أن وجهات نظرك كمستشار لم تعد تلقى قبول من تنصحه يتعين عليك الرحيل في هدوء وأن تلوذ بالصمت زمنا طويلا حتى يغيب عن المشهد من تطولهم كلماتك إذا تحدثت..

في 5 نوفمبر عام 2002 قال الباز إن الرئيس مبارك "لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة القادمة"، وأنه لا يفكر في توريث الحكم لابنه.. وفي اليوم التالي 6 نوفمبر 2002 قال بعبارة ملتوية إن "الرئيس مبارك لا ينوي تمديد حكمه مدى الحياة"، وأن من المبكر جدا قول ما إن كان سيخوض الانتخابات، وأكد مرة أخرى أن الرئيس لا يقوم بتهيئة ابنه جمال لتسلم السلطة، وأن جمال بالذات لا يعد نفسه لتسلم السلطة أو أي شيء من هذا القبيل.

أما التصريح المفاجئ والذي كان الباز أول من يعلنه فكان في مارس 2005، قال إن الرئيس مبارك يدرس فكرة تعيين نائب لأول مرة، وكانت التكهنات تشير إلى اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات.

فهل كان اختفاء أسامة الباز من المشهد السياسي أواخر 2005 مرتبطا بتلك التصريحات وما تعبر عنه من موقف، وأن الغاضبين من فكرة تعيين نائب من شأنها أن تقضي على أي أمل في ترشيح نجل الرئيس جمال كانوا وراء إزاحة الباز؟

ليس هناك شيء معلن عن أسباب الاختفاء المفاجئ، تردد أن الباز قدم استقالته للرئيس قبل انتخابات 2005 على خلفية الطريقة التي ستدار بها الانتخابات، وأن الرئيس لم يقبل الاستقالة في حينها وإنما منح الباز أجازة مفتوحة.. لكن المؤكد أن الباز لم يعد يذهب إلى مكتبه في الرئاسة، بل عاد أدراجه إلى المبنى القديم بوزارة الخارجية، يركب المترو كل صباح من ثكنات المعادي حيث يسكن إلى ميدان التحرير (أو محطة السادت حسب اسمها الرسمي المكتوب تحت الأرض).

آخر ما كتب في الصحف منسوبا للباز له علاقة أيضا بتلك القضية.. على غير عادته في الإدلاء بتصريحات، كان الباز حريصا هذه المرة أن تصل كلماته بصياغته مباشرة إلى القراء.. نشر مقالا في أخبار اليوم 16 يوليو 2005 عنوانه وخاتمته يحملان نصف الرسالة: "الوصايا العشر.. حتى لا يندم بعد هذا أحد" ثم الخاتمة "ألا هل بينت اللهم فاشهد"، ونصفها الباقي في متنها.. وكانت الوصايا أو الشروط العشر – باختصار - الأولى "أن يكون المرشح ملما إلماما كافيا بتاريخ بلده وتراثه"، الثانية "لديه خبرة كافية باتخاذ القرارات الحاسمة.. ووعي كاف بأثر هذه القرارات علي المصالح العليا للوطن"، والثالثة "لديه القدرة على تشخيص الأوضاع القائمة في الوطن تشخيصا سليما وتحليلها بأسلوب علمي"، والرابعة "أن يكون المرشح قد اشتهر بالقدرة علي الإدارة بأسلوب علمي رشيد"، والخامسة "أن تتوافر للمرشح القدرة علي مخاطبة الجماهير والحصول علي ثقتها، بالصدق والمكاشفة، بعيدا عن الوعود الزائفة والخداع"، والسادسة "أن يكون المرشح معروفا بالصدق والأمانة والنزاهة، والبعد عن الكذب والتضليل والمبالغة"، والسابعة "أن تكون له خبرة معروفة في مجال إدارة الأزمات" والثامنة "أن يكون للمرشح اهتمام بالسياسة الخارجية"، والتاسعة "ألا يكون المرشح معروفا أو مستعدا للانصياع لقوي خارجية" والوصية العاشرة "ألا يكون المرشح قد اشتهر عنه التردد والتذبذب في المواقف"، وأخيرا اختتم الباز بقوله "ألا هل بينت.. اللهم فاشهد!"

كان من الممكن أن يعنون الباز مقاله "بالشروط الواجب توافرها للمرشح إلى الرئاسة" ويسكت، لكن استخدام تعبير "الوصايا العشر" ثم "حتى لا يندم بعد ذلك أحد" ثم التعبير التراثي "ألا هل بينت اللهم فاشهد" يؤكد أن المقال إعلان موقف، أو إبراء ذمة، أو شهادة للتاريخ..

يمكنك أن تستشف من الشروط الواجب توافرها في المرشح – حسب رؤية الباز- أنها لا تنطبق على نجل الرئيس فتعتبر المقال رفضا غير مباشر لفكرة التوريث، وأن تضيف على ذلك خلو المقال من إشارات لمقولات الفكر الجديد وتسليم الراية لجيل الشباب، لتؤكد لنفسك أنه كان يعترض على إعداد جمال للرئاسة، لكن الأكثر وضوحا أنها استكمال علني لموقف قاله في غرف مغلقة.. واعتراض صريح على مؤسسة الرئاسة، في موضوع محدد هو طريقة اختيار الرئيس القادم.. أيا من كان. الرئيس أم ابنه.. أم.........

عندما سئل د.أسامة الباز عن سر اختفائه استعاد بسرعة لغة أبناء مؤسسة الكهنة المصرية عندما يتعرضون لمواقف محرجة، قال "كل شيء في الدنيا تغير.. العالم لم يعد كما كان.. والتصورات الجديدة تحتاج وجوهاً جديدة».

أيمن شرف - صوت الأمة نوفمبر 2009