النظام وأميركا والإخوان سيتوافقون على انتقال السلطة
ما بعد "الانتخابات البرلمانية" في مصر
المقال منشور بصحيفة الغد الأردنية الخميس 22 ديسمبر 2005
السؤال الذي يطرح نفسه في مصر حاليا؛ ماذا بعد انتخابات مجلس الشعب التي شهدت مفاجأة للجميع: بروز واضح لجماعة الإخوان المسلمين وتراجع واضح للحزب الوطني رغم حيازته صوريا للأغلبية وانزواء واضح أيضا لأحزاب ورموز المعارضة التقليدية اليسارية أو الناصرية أو الليبرالية؟ ترى أين تكمن الإجابة؟
يمكن القول دون الخوف من الوقوع في شبهة المبالغة إن في مصر حاليا ثلاثة أطراف رئيسية هي التي تمارس اللعبة السياسية، ومع اختلاف أهداف ورؤى كل منها لتحقيق تلك الأهداف يظل محور الاحتكاك بينها جميعا هو: شكل انتقال السلطة في المرحلة المقبلة.
الأطراف الثلاثة حسبما ما تظهر خريطة الفعل ورد الفعل وميزان القوى بينها في العام 2005 هي: النظام، ممثلا في مجموعات متفرقة على رأس أجهزة الدولة ابتداء من الرئاسة وانتهاء بالصحف الحكومية وباقي الوزارات والهيئات الرسمية، ثم الولايات المتحدة، وأخيرا حركة الإخوان المسلمين. ويمكن إضافة هوامش مساعدة قد تمثل أحيانا أداة لعمل كل من تلك الأطراف أو عوامل محفزة لنشاطها، هي الحزب الوطني (الأداة السياسية الشعبية للنظام)، وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية علمانية الطابع والتي تمثل في جانب منها –وبغض النطر عن وطنية نشطائها ونبل أهدافهم- يدا طولى للإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي باعتبارهما جهات التمويل الأساسية والموجه لأجندة تلك الجمعيات تقريبا أو التي تتماس مطالبها مع المعلن من الأجندة الأميركية في مصر والمنطقة، وثالثا حركات المعارضة الناشئة مثل حركة كفاية وتجمعات القضاة والصحافيين والمحامين وهي حركات تجمع مطالبها بين الديمقراطية ورفض أجندة السياسة الأميركية في المنطقة وليس مجرد رفض تدخلها، والتي تمثل محفزا وربما شريكا لحركة الإخوان المسلمين في الأهداف المرحلية على الأقل.
واللعبة مفتوحة على سيناريوهات مختلفة، أقصاها الصدام بين أي من طرفيها إذا ما تعارضت الأهداف تماما، وأدناها التواؤم والتماهي في أهداف الطرفين الآخرين، ولكن السيناريوهات المتشددة الأقصى والأدنى تبدو هي الأبعد في احتمالات تحققها.
وتعلم الأطراف الثلاثة - كما سبقت الإشارة- أن النقطة المفصلية هي "انتقال السلطة"، وما عداها أهداف ثانوية، أو قائمة من قبل ومن بعد. فطموح الولايات المتحدة نحو تجفيف منابع الفكر الإسلامي المتطرف - أيا ما كان تصورها عن معالجته الذي هو في الغالب فتح العملية السياسية للتيارات التي تنبذ العنف وإزاحة أقطاب التفكير السلفي عن قيادة الجماهير سواء في الأزهر أو المساجد واستبعاد النصوص والمحتوى السلفي من المناهج التعليمية- كان موجودا قبل أحداث 11 سبتمبر وتزايد زخمه بعدها وسيتواصل بعد انتقال السلطة. وطموح الإخوان المسلمين إلى الانتشار في هياكل إدارة المجتمع والتوغل بين نخبه في الجامعات وأجهزة الدولة لا ينقطع منذ سنين، وطموح النظام في البقاء لا ينقطع أيضا.
مفاجأة صعود الإخوان رغم الاستعداد لها، وانحسار الشعبية عن رافعي شعار الحزب الوطني وتجنب توقعها رغم وجود مؤشرات كبيرة عليها، واحتمالات تغيير الإدارة الأمريكية لموقفها المعلن من عدم التعامل مع الإخوان رغم محاولة النظام عرقلته، وتخويف الأميركيين دائما من أن بديله هو "التطرف الإسلامي". كل ذلك يصب في احتمالات أن تتحرك الأطراف الثلاثة باتجاه التوافق النسبي لعبور النقطة المفصلية.
الأرجح أن النظام المصري سيعد نفسه لتعامل مزدوج مع الإخوان يتمثل بالملاحقة الأمنية-كما هو في السابق- والتشويه المنتظم عبر صحفه ووسائل إعلامه، إلى جانب محاولة التشتيت بدعم جناح منفصل هنا أو هناك، وفتح المجال، وربما رعاية أحزاب أخرى ليبرالية أو قومية الطابع لتأكل من مساحات تأييد وشعبية الإخوان، واستقطاب عناصر من الإخوان - وبالذات في صفوف البرلمان- للخروج من عباءة الجماعة أو على الأقل الاشتراك في صفقات جزئية مع النظام. أما في قضية انتقال السلطة فسيحتاج إلى توافق كبير قد يجعله راغبا في تقديم تنازلات من نوع إعطاء شرعية ما لجماعة الإخوان المسلمين في مقابل أن تدعم تصوره لانتقال السلطة، والذي لا يعني بالضرورة انتقالا من الأب إلى الابن.
الإخوان من جانبهم سيميلون - بحكم أنهم على المحك، في أول تجربة ظهور بارز في البرلمان فقط لأنهم سبق وأن أعلنوا عن وجودهم في النقابات المهنية المحامين والأطباء والمهندسين ونجحوا في البقاء، وعدم استفزاز النظام بإحكام سيطرتهم على أي من تلك النقابات- إلى عدم الصدام مع النظام في القضايا الفرعية. أما الموضوعات التي تمس وتشكل محور مصداقيتهم فسيواصلون مواقفهم الثابتة منها. وتبدو رغبة الإخوان في عدم استنفار النظام أو الولايات المتحدة واضحة حتى في عدم منافستهم على كامل مقاعد البرلمان والاكتفاء بالسعى إلى السيطرة على ثلث المقاعد، فرشحوا قرابة 130 مرشحا وحصلوا على 88 مقعدا.
والولايات المتحدة من جانبها لا تبدو معترضة على انتقال السلطة لابن الرئيس، ولكن كمرشح بين آخرين، وهي تمتنع عن إعلان تأييدها أولا لأنه أمر سابق لأوانه، وثانيا لأنه قد يؤدي إلى نتائج عكسية. من ناحية أخرى هي تسعى وسعت لأن يكون لديها مرشح ليبرالي بديل تناور من خلاله، ولنلاحظ درجة الامتعاض التي أبدتها فيما يتعلق بتعامل النظام مع السياسي الشاب أيمن نور، إلغاء زيارة رايس للقاهرة عقب القبض عليه متهما بتزوير أوراق مؤسسين لحزبه الغد، وتنديد المسؤولين الرسميين في الإدارة بالقضية برمتها، وفي الوقت نفسه تراجعت عن تحفظها – إرضاء للنظام- على التعامل مع الإخوان.
والإخوان من جانبهم ليسوا معترضين على هذا السيناريو، فيتجنبون الخوض فيه كثيرا، وبينما يعلنون أنهم ضد التوريث. إلا أنهم لن يجدوا غضاضة في قبول ترشيح ابن الرئيس في مرحلة لاحقة، في مقابل أن يكون لهم مرشحهم من جانب، أو أن يحصلوا على شرعية ما توفر عليهم الملاحقات الدائمة، وتتيح لهم شرعية افتقدوها لزمن طويل. وهم في هذا السياق مستعدون لتعديل الكثير من رؤاهم ذات الطابع الديني، خصوصا ما يتعلق بالأقباط وحقوق المواطنة والاحتكام إلى الديمقراطية وليس إلى "الشريعة" في الحكم.
لكن هل يقوم كل ذلك على أرضية التراكم الديمقراطي أم أنه مدمر للمجتمع، باعتباره لعبة سياسية لتثبيت أوضاع قديمة مع استفادة محدودة وتنازلات متبادلة لجماعات نخبوية بعيدا عن اهتمامات جموع المصريين الذين مازالت لا تشغلهم كثيرا "لعبة السلطة"، ويكفيهم اللهاث اليومي من أجل لقمة العيش، ويعتقدون أن أقصى ما يمكن الحصول عليه هو رشاوى انتخابية أكبر قليلا من رشاوى الانتخابات البرلمانية وتخليص المصالح الصغيرة من تعيين قريب في وظيفة أو وساطة لدى وزير، وليس تغييرا شاملا في أوجه حياتهم من البطالة إلى الكساد الاقتصادي إلى الفساد المزمن في الدولة إلى ضعف التعليم والخدمات الصحية إلى الخلل العميق في إرساء حكم القانون.
الحقيقة أنه فيما عدا احتمالات التوافق على انتقال السلطة وأن الأطراف الثلاثة السابقة هي الأكثر تؤهلا لحسمه، تبدو حركات سياسية وليدة مثل حركة كفاية وحركة القضاة وأساتذة الجامعات مرشحة بقوة إذا ما توفر لها وجود تنظيمي أعلى وأكثر تأثيرا في الشارع السياسي لأن تحدث تعديلا كبيرا أو أن تكون موجها ومرشدا باتجاه عدم تدمير الأطراف الثلاثة للحياة السياسية في مصر؛ تارة من خلال الاستقطاب المشاعري العاطفي للإخوان المسلمين، وتارة بالاستحواذ المطلق على دواليب إدارة مصالح الناس من خلال النظام وحزبه، وتارة باختزال مصالح المجتمع المصري في إطار أجندة سياسة خارجية للولايات المتحدة في المنطقة ممثلة في علاقة أكثر من طيبة مع إسرائيل والتزام كامل بمكافحة الإرهاب، ودور ترويجي للسياسة الأمريكية في المنطقة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة الباقية حتى نهاية القرن.
أيمن شرف
سائق الميكروباص رئيسا
سائق الميكروباص رئيسا
يتمتع سائق الميكروباص في أوطاننا بفرصة أن يكون رئيسا.. ليس استنادا إلى قواعد الديموقراطية العرجاء، وإنما استنادا إلى العوامل الصانعة للأمر الواقع.. فسائق الميكروباص أهدته الصدفة التاريخية سيارة كبيرة تسير على أربع، وركابا من عينة شعوب العالم الثالث أو بقايا شعوب الحضارات القديمة ممن يستسلمون سريعا للمقادير، تربطهم بالسائق مصلحة مشتركة قائمة على المقايضة البسيطة.. السائق يقود والركاب ينقادون مسافة ما، وليس هناك اتفاق مسبق حول مدة الرحلة أو عن التزام السائق قواعد المرور للوصول بالركاب سالمين.. لا توجد اتفاقات مسبقة معلنة؛ هناك اتفاقات صامتة.. صمتها يوحي بإمكانية نقضها (من قبل السائق طبعا فهو قائد المسيرة دون محاسبة أو مراجعة).
يتسلح السائق بشيء من الجرأة (أو قل الصفاقة) في تعامله مع الركاب، كأن يرفع صوت الكاسيت بصورة مبالغ فيها على أغنية قد لا تناسب كثيرا ذوق الركاب، أو واعظ من وعاظ التطرف يتحدث عن أمور لا تناسب بالمرة ركابا في طريق سفر مثل تكفين الموتى أو العلاقة الزوجية أو النكاح في الإسلام، فيتحلى الركاب بالصمت الرهيب لا يرفع أحدهم عقيرته مطالبا بتغيير الشريط.
الكلام عن سائق الميكروباص في نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد موصول بما كتبه قبل خمسين عاما تقريبا طه حسين في رسالة له عن ثورة يوليو (لم يعثر على الرسالة إلا حديثا ونشرتها شهرية "وجهات نظر") يقول فيها: "الثورة في نفسها خير لا شك فيه، وهي قد أراحت مصر، لا من فاروق فحسب بل من نظام الملكية السخيف، ولكن المصريين محدثون في الثورة يجهلون من أمورها كل شئ، وهم بعد لا يحبون احتمال المشقات، وإنما يريدون أن ينقلوا ما يكرهون إلى ما يحبون في غير جهد ولا عناء ولا تضحية، وهم يقولون كثيرا ولا يعملون شيئا، وهم عبء على حكامهم يتملقونهم بالقول ويثقلون عليهم بالعمل ويرهقونهم من أمرهم عسرا دائما، وأغرب ما فيهم أنهم يصدقون بألسنتهم كل ما يقول لهم الحكام ويكذبون بقلوبهم كل ما يقول لهم الحكماء أيضا، فهم راضون بألسنتهم، ساخطون بقلوبهم كأنهم خلقوا ليكونوا منافقين.. والخطر كل الخطر في أمرهم أنهم لا يريدون النفاق ولا يحبونه ولكنهم خلقوا ضعافا يصانعون الحكام في ظاهر أمرهم ليأمنوا بطشهم، ويعيبون الحكام فيما بينهم وبين أنفسهم ليرضوا ضمائرهم.. هم في حاجة إلى شئ من القوة.. قوة الخلق، وإلى شئ من الشجاعة ليلائموا بين ما يظهرون وما يضمرون، ويصارحوا حكامهم بما يريدون، ويومئذ تستقيم أمورهم كلها، ولست يائسا لأني لم أعرف اليأس قط، لست يائسا من أن هذا سيتحقق في يوم قريب أو بعيد".
وما قاله طه حسين موصول أيضا بما قاله جمال حمدان (وكذلك الذين استرشدوا برؤيته فيما بعد) عن أن الطبيعة النهرية (الفيضية) والتحكم في النهر يفرضان قانون انتخاب طبيعي مريض لا يسمح في الغالب بظهور شخصية متفردة وإنما يفتح المجال للشخصية الطيعة أو ما أسماه "الشخصية الرخوة"، تلك التي تختار النفاق وسيلة للصعود أو الهروب من سطوة الحكم، والسبب في ذلك كما أوضحه حمدان في دراسته التأسيسية عن الشخصية المصرية هو أن الطبيعة النهرية والتحكم في النهر يفرضان ارتباطا عضويا بين سلطة مركزية قوية واستقرار مصالح الأفراد؛ لذلك تصبح اللحظات التي يغيب فيها الحاكم (بالوفاة أو الاغتيال) من أكثر اللحظات ترقبا وقلقا على مستوى واسع، ويصبح انتقال الحكم لأي شخص كان باعثا على الاطمئنان في النفوس.
ولكن ما رآه طه حسين وجمال حمدان في زمن ما يواجه أسئلة نقدية قوية تطعن في رؤيتهما أو على الأقل تفتح الباب لمزيد من التأمل.. مثلا: أليست الحالة المصرية (العلاقة بين الحكام والمحكومين) موجودة وبكثافة في نطاقات جغرافية عربية لا صلة لها بثقافة النهر حيث يمكن استبدال المصريين في الاقتباس المأخوذ من رسالة طه حسين بأي من أبناء البلدان العربية الأخرى؟ ألم تشهد مصر تغيرات في العناصر الحاكمة للعلاقة بين المحكومين والحكام منذ ذلك التاريخ إلى اليوم؟ وألم تحدث في مصر (الزراعية النهرية) تحولات اقتصادية وتقنية أذابت شريحة الفلاحين الفقراء وجعلتها أقرب لمخلفات الماضي، حيث لم يعد المشتغلون بالفلاحة يشكلون غالبية المصريين؟ وإذا كان هناك من يرجع تلك "الحالة المصرية" إلى طول العهد بالاستعمار منذ الإسكندر وحتى الإنجليز فإنه يتجاوز الواقع لا شك، فمصر قد عرفت الاستقلال وعرفت الثورات والانتفاضات والعصيان السلمي حتى في عصورها السحيقة، بالإضافة إلى أن مصر لم تكن وحدها استثناء في الخضوع للاستعمار بل عاشت معها شعوب أخرى الهم نفسه، على الرغم من أن تلك الثورات والانتفاضات لم تكن في الوقت نفسه سوى حالات فوران عابرة، لم تترك أثرا ذا بال في التركيبة النفسية والثقافية للشخصية المصرية ولم تكن ملمحا بارزا لها.
فأين يكمن السر إذن؟
الحقيقة أن بنية ثقافية أوسع في منطقة "العالم القديم" جغرافيا وتاريخيا رسخت هذه الظاهرة الثقافية، فألوهية الحاكم لم تكن حكرا على مصر "النهرية" القديمة، بل كانت قاسما مشتركا لدى شعوب العراق والشام وشبه الجزيرة العربية والمغرب العربي، ولم تستطع الديانات السماوية الثلاث بما حملته من مفاهيم جديدة عن العدل والمساواة بين البشر إلى المنطقة نفسها أن تغير كثيرا في البنية الثقافية للشعوب، وربما ساهمت مفاهيمها عن القدرية والمشيئة الإلهية في مضاعفة الاستسلام لمشيئة الحاكم باعتبار مخالفة ولي الأمر مخالفة للخالق.
وعلى سبيل المثال.. لا يخلو التعريف الأكثر انتشارا للإسلام في الخطاب الديني العام باعتباره "استسلاما" أو "تسليما نهائيا" لمشيئة الخالق والطاعة المطلقة له من دلالة في هذا السياق، بما يعني أن مفهوم العبودية هو الأكثر استقرارا في نفسية المسلم إن كان يفهم الإسلام على هذا النحو فقط، وإذا مددنا الخط على استقامته ألا يمكن القول إن ذلك من شأنه خلق حالة من الاستعداد للتبعية والانسحاق أمام قوة الحاكم وجبروته وسطوته، أي أمام أي بديل أو ممثل لسلطة أعلى على الفرد المسلم؟!، وألا يجوز القول إن هذا المفهوم قد وجد تعزيزا كبيرا له بين ثلاث ثقافات حاكمة للسلوك –خاصة في أوساط التدين الشعبي- هي ثقافة الفقر والقهر والزحام التي تعتبر الأقوى تأثيرا والأكثر انتشارا بين الغالبية العظمى للشعب المصري والشعوب العربية أيضا مع الفارق في الدرجة بين مكان وآخر؟!.
صحيح أن الفقر قد يولد الطموح إلى الخلاص منه بالجهد والعمل من أجل تحقيق صعود اجتماعي، والقهر قد يخلق الرغبة في التمرد والمقاومة، والزحام قد يولد حالة من التوحد ضد الخصم، ولكن اجتماع العناصر الثلاثة معا ولزمن طويل يكون أقرب احتمالا لخلق حالة مزمنة من المسكنة والمذلة والنفاق، يبحث أصحابها في مفردات الخطاب الديني العام والثقافي الموروث من أمثال وحكم شعبية عما يبررها ويدعمها، وما يزيد الطين بلة إدراك القائمين على "صناعة الخطاب الديني الرسمي" لأهمية ما بين أيديهم من "ثروة سياسية" فيزيدون -جيلا بعد جيل- من جرعات تدجين شريحة "التدين الشعبي"، وبذلك يحافظ "صناع الخطاب الديني الرسمي" على بقائهم قريبين من معين السلطة غانمين مكاسبها ومخصصاتها.
وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن الإسلام ليس مسئولا على الإطلاق عن حالة الاستبداد والانحطاط السياسي في المنطقة، بل هو نسيج ثقافي عام ومفردات اتفاق اجتماعي يمكن توظيفها في تحقيق نهضة سياسية واجتماعية إذا حسنت الأهداف والأدوات، ويمكن استغلاله أسوأ استغلال إذا ما ساءت الأغراض والنوايا.
توصيف طه حسين لما رآه ولمسه في المصريين في الخمسينات مازال ينطبق عليهم في مطلع الألفية الثالثة، وينطبق على غيرهم من الأشقاء في الثقافة العربية والجوار الجغرافي، وتوصيف جمال حمدان لما اعتبره عناصر في بنية الشخصية القومية المصرية منذ نشأة الزراعة حول النيل مازال ينطبق عليهم إلى اليوم، ولا يرجع السبب إلى أبدية تأثير الجغرافيا على البشر، وإنما إلى تضافر عوامل جديدة تصب في الاتجاه نفسه، مثل:
ـ تضخم قدرة وآليات "الدولة" على قمع مواطنيها وتزييف وعيهم، استنادا لشرعيتها الثورية مرة أو شرعية الأمر الواقع، أو إدراكا منها لافتقادها الشرعية عموما.
ـ تغليب الاتباع والتقليد والنقل على الإبداع والابتكار وإعمال العقل خاصة في المؤسسات الدينية مما خلق في النهاية نمطا جامدا من الدين يخدم السلطة الرسمية لا غير ويسيطر على قطاع واسع من البشر.
ـ انسداد شرايين الحراك الاجتماعي والذي من شأنه خلق حيوية جديدة على يد المنتقلين صعودا إلى مراتب أعلى، وذلك نتيجة لاستتباب أمر حيازة الثروة في يد شرائح معينة جيلا بعد جيل، مما أورث من يرثون الفقر والبقاء على الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي نفس الخطاب القدري الاستسلامي للسلطة، وسمات الشخصية الرخوة المتعلقة بأهدابها، وساهم في فرز المزيد من المنافقين على حساب النقديين الإصلاحيين.
وبعد.. هل يمكن أن يجد تفاؤل طه حسين بإمكانية التغيير ما يبرره موضوعيا، بعيدا عن طبيعته كشخص "لا يعرف اليأس قط"؟... الحقيقة أنني أشك كثيرا في إمكانية تحول أي شعب يخشى حكامه ويتملقهم ظاهريا وهو يمقتهم سرا هكذا بين يوم وليلة لمجرد إدراكه نقيصته، وحتى لو غامرت نخبه الحاكمة في نوبة وعي أو صحوة ضمير لضرورة التغيير وأجرت انتخابات عبر صناديق زجاجية وضمانات نزاهة مطلقة، فسرعان ما ستفرض التركيبة المختلة للثقافة السائدة نفسها، وترتد العملية الديموقراطية على عقبيها، فالأساس ليس صندوق الاقتراع وإنما في الوعي الذاهب إليه، والذي يحتاج خلقه إلى عملية مركبة.. عملية لبناء المجتمع على أسس جديدة تماما، أي أن مطالبة كثيرين من المثقفين المصريين والعرب منذ قرابة نصف قرن من الزمان وحتى اليوم بديموقراطية "صندوق الانتخابات" والتعدد الحزبي وتصورهم أنه الحل الناجع والأمثل لمشاكل مجتمعاتهم لا تكفي وليست هي المطلب الأدق رغم بريقه وقدرته على تحقيق تغير نسبي، ولكن المطلب الأهم والأنجع هو الإصلاح الاجتماعي الشامل في ظل حرية كاملة.
"الرئيس المفتخر" و"البرلمان الحلزوني".. فيديو جيم جديدة في الأسواق
تخيلات مستقبلية لما يمكن أن يحدث بعد خمسين عاما
تنشر تباعا في صحيفة الكرامة المصرية
يباع حاليا في الأسواق مجموعة جديدة من ألعاب "الفيديو جيم" من إنتاج الشركة المصرية للألعاب الذكية، بعد أن اعتمدتها تربويا وزارة التربية والتعليم، من بينها لعبة "الرئيس المفتخر" و"البرلمان الحلزوني".
وتعتمد اللعبة الأولى "الرئيس المفتخر" على مهارات الكشف عن الهوية الحقيقية للمرشح للرئاسة، من خلال ابتكار أسئلة للشخصيات المطروحة وكلما أحرز اللاعب نقاطا أكثر كلما انكشف القناع الذي يرتديه المرشح، وتتغير ملامحه المزيفة إلى ملامح حقيقية وتظهر هويته الأصلية وخبراته السابقة. ومن الشخصيات التي تتضمنها اللعبة المرشح البلطجي والمرشح الحرامي والمرشح الناضورجي والمرشح لاعب الكرة الشراب وأخيرا المرشح لوسي، وهي شخصية استوحاها مبرمج اللعبة من الفيلم المصري القديم "إشاعة حب"، وتمثل شاب دلوعة رفض الفنان الكبير الراحل يوسف وهبي والذي كان يلعب دور والد الفنانة الشهيرة الراحلة سعاد حسني في الفيلم ارتباطه بابنته لأنه لا يتسم بسمات الرجولة الواجب توافرها في الزوج.
أما لعبة "البرلمان الحلزوني" فتدور أحداثها داخل البرلمان المصري، وتقوم على فكرة أن مجموعة من الأشخاص غير المؤهلين قد اغتصبوا تمثيل الشعب في غفلة من الزمن ودخلوا تحت قبة البرلمان، وعلى اللاعب أن يطاردهم في القاعة الرئيسية للمجلس، وفي قاعاته المختلفة أثناء انعقاد اللجان المتخصصة.
وفي المرحلة الأولى من اللعبة المخصصة للطفل الأقل من ست سنوات يمكن اللاعب أن يميزهم من خلال الرموز الانتخابية التي اختاروها لأنفسهم حيث يجد رمز "القفة" مرسوما بشكل مموه على ثيابهم أو جبهاتهم، وفي المراحل الأصعب المخصصة للأطفال الأكبر سنا توحد الرموز بين الجميع، ويتعين على اللاعب كشف الزيف في أحاديث أعضاء المجلس، من خلال متابعته للجلسات ومشروعات القوانين التي يطرحونها.
وتبدأ اللعبة عموما بمشاهد ساخرة تصور جلسة افتتاحية للبرلمان يلقي فيها رئيس الدولة كلمة بمناسبة الدورة الجديدة، بينما يتعارك عدد من الأعضاء على من يجلس في الصفوف الأمامية أو يطل برأسه أمام كاميرات التليفزيون حتى يراه المشاهدون ويقسم أحدهم بالطلاق ثلاثا من زوجته أنه "هوه اللي جه الأول" وبالتالي يحق له أن يجلس في الصف الأول ويستنجد بالرئيس لكي يحل المشكلة، فيما يتزاحم آخرون للحصول على تذاكر حفل سينمائي يوزعها عليهم واحد من أكبر أثرياء المجلس، بعد أن غمزه رئيس المجلس أن يحل مشكلة الكراسي الأمامية بطريقته.
الأحزاب الرياضية تكتسح العالم العربي
مصر مازالت ترفض تشكيل حزب على أساس رياضي
تخيلات مستقبلية لما يمكن أن يحدث بعد خمسين عاما
تنشر تباعا في صحيفة الكرامة المصرية
أخيرا اقتنعت القيادات السياسية في العالم العربي بأن الحل الأفضل لحالة الموات السياسي هو السماح بقيام أحزاب على أساس رياضي، وذلك بعد أن بادرت قيادة إحدى الدول العربية المعروفة بالأفكار السياسية البراقة والمبتكرة بالسماح بقيام أحزاب سياسية على أساس رياضي، وأصبح الشارع السياسي العربي يضج بأحزاب سياسية من نوع الرجاء البيضاوي والوداد المغربي وأهلي جدة، والهلال السعودي والمريخ السوداني، فيما رفضت دول مثل مصر اعتماد المبدأ نفسه على اعتبار أن إنشاء أحزاب على أساس رياضي من شأنه أن يزعزع الوحدة الوطنية نتيجة انقسام عنصري الأمة المصرية بين ناديين عريقيين هما الأهلى والزمالك، وأن تشكيل أي منهما منفردا لحكومة من شأنه أن يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الأمنى وقد يؤدي إلى مشاكل طائفية يصعب حلها، بالإضافة إلى صعوبة تشكيل حكومة وحدة وطنية نتيجة للعداء المستحكم بين أشياع الناديين.
وقد شكل حزبا الأهلي وطرابلس الليبيين حكومة إئتلافية الأسبوع الماضي، بعد فشل حزب بنغازي الحاكم في الحصول على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ليبيا. يذكر أن حزب الأهلي الليبي ليس مرتبطا بأي نادي ليبي، ولكنه يضم مشجعي النادي الأهلي المصري من ليبيين ومصريين، بعد عقد اتفاقية مصرية -ليبية منذ عشرين عاما تسمح لمواطني البلدين ليس فقط بحرية التنقل بينهما ولكن أيضا بالجمع بين جنسية البلدين في وقت واحد، ويشترط فقط لممارسة كافة الحقوق السياسية الإقامة الكاملة في أي من البلدين، وأدت الاتفاقية إلى نزوح أعداد كبيرة من المصريين الأهلاوية في غالبيتهم إلى ليبيا الشقيقة والإقامة فيها والجمع بين الجنسيتين، ونظرا للشعبية الكبيرة التي يحظى بها نادي الأهلي المصري بين الليبيين أصبح الحزب واحدا من أكبر أحزابها في عدد أعضائه.
وقد شهدت التجربة في بدايتها بعض السلبيات، حيث توترت العلاقة بين اليمن والسعودية عقب مبارة لكرة القدم بين حزب الفريقين الحاكمين (التلال اليمني والهلال السعودي) في كل منهما، وتطور الأمر إلى اشتباكات على الحدود، وقطع للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين بسبب هدف لم يحتسبه حكم المباراة، وتمكنت وساطات قام بها عدد من نجوم كرة القدم العربية الحاليين والسابقين من احتواء الأزمة.
ودعا المؤتمر الأخير لاتحاد كرة القدم العربية في بيروت كافة الأحزاب السياسية العربية إلى التحلي بالروح الرياضية، واعتبار الفوز والهزيمة في صناديق الاقتراع منافسة حرة لا تختلف كثيرا عن المنافسة داخل المستطيل الأخضر، هذا ويجري اتحاد كرة القدم العربية بالتعاون والتنسيق مع الاتحاد الدولي لكرة القدم مشاورات مكثفة مع الحكومة المصرية لإقناعها بخوض التجربة، مع وضع الضمانات المطلوبة التي تنهي التحفظات المصرية عليها.
مظاهرات أمام قنصلية الغردقة وشرم الشيخ في قنا وسوهاج
تخيلات مستقبلية لما يمكن أن يحدث بعد خمسين عاما
تنشر تباعا في صحيفة الكرامة المصرية
شهدت مدينتا قنا وسوهاج في صعيد مصر مظاهرات عنيفة أمس وأمس الأول أمام قنصلية الغردقة وشرم الشيخ بسبب ما وصفه المتظاهرون بتعسف القنصلية في إجراءات التأشيرة لمواطني المحافظتين ضمن محافظات صعيد مصر الأخرى، حيث تصر على أن يقدم الراغبون في السفر إلى المنطقتين المحظور دخول المواطنين المصريين وخصوصا أبناء الصعيد إليهما ما يثبت ملكية خمسة أفدنة على الأقل، أو رصيد لا يقل عن عشرة آلاف دولار في البنك لكي يتسنى لهم الحصول على تأشيرة الدخول.
وفي مواجهة القنصل لحظة دخوله إلى مقر عمله هتف المتظاهرون "فدادين خمسة.. خمس فدادين.. قولي جنابك ألاقيهم فين"، و"محميات.. محميات.. واحنا ولادنا بياكلوا فتات"، وقرر عدد من المتقدمين بطلب تأشيرة تنظيم إضراب عن الطعام، وقال أحدهم للكرامة في نبرة يأس "لو مت مضربا عن الطعام سأرتاح على الأقل من مسئولية أولادي".
فيما يؤكد قنصل المدينتين في قنا أن الإجراءات المشددة لمنع المواطنين محدودي الدخل تهدف إلى الحفاظ على طبيعة مدينة الغردقة باعتبارها "محمية سياحية"، ومدينة شرم الشيخ باعتبارها "محمية سياسية"، ونفى القنصل ما نشرته صحيفة الكرامة في العدد السابق حول ظاهرة الاتجار في التأشيرات في السوق السوداء، وقيام أصحاب المشروعات في المدينتين ببيع تأشيرات عمل وهمية مقابل آلاف الدولارات، وقال إن هذه العملية تخضع لرقابة مشددة، ولا يسمح لأي مؤسسة عمل بجلب عمال من داخل مصر بما يزيد على النسبة المخصصة لكل مؤسسة، وهي 10 بالمئة فقط أما الباقي فتوفرهم المؤسسة من المقيمين في المدينتين أو من الخارج.
فيما اعترض نقيب العمال في سوهاج على تلك الإجراءات مشيرا إلى ارتفاع نسب البطالة إلى حدود غير مسبوقة في محافظات صعيد مصر، وإلى عمليات التسلل في زوارق عبر البحر الأحمر للدخول إلى المدينتين بعيدا عن نقاط التفتيش على الطرق المؤدية إليهما، والتي راح ضحيتها في العام الماضي وحده قرابة 500 مواطن مصري.