Friday, August 18, 2006

روح الانتصار



ثلاثة وثلاثون عاما مرت على طعم الانتصار في حلوق المصريين والعرب في حرب أكتوبر 1973، وها هم يذوقونه الآن في لبنان، رغم أنف الانهزاميين، لكي يتأكد أن روح الانتصار ما تزال تسكن أجساد الآلاف والملايين من أبناء هذه الأمة المستهدفة - شاءت أم أبت- بإلحاق الهزيمة بها من قبل إسرائيل وحليفها وراعيها وشريكها السياسي والعسكري: أميركا. ولكي يتأكد أن انتصار المقاومة في لبنان - صغر أم كبر، زادت كلفته الإنسانية أم قلت- ضروري لهذه الأمة حتى تتوازن نفسيا بإحساس "الكرامة" الذي فقدته نخب استسهلت الخضوع، ونظّرت لقبول إملاءات الآخرين في البيت الأبيض أو تل أبيب.. نخب تخلت -طواعية وبقرار داخلي- عن المواجهة، اعتقادا منها مثلا أن "حرب أكتوبر هي آخر الحروب" مع إسرائيل، وكأن الحرب والسلام يصنعهما طرف واحد إذا أرادهما، وكأن الحرب مع إسرائيل خيار حر للعرب وليست مفروضة عليهم فرضا من عدو- غريب عن هذه الجغرافيا وهذه الثقافة، كيان سياسي-عسكري عدواني بطبيعته، يتصور أن بقاءه مرهون فقط بالقوة الغاشمة وإضعاف الآخرين.. نخب حاكمة أوهمت نفسها - ولم تكتف بذلك- بل راحت توهم شعوبها بأن "الثقافة -على سبيل المثال- هي لغة السلام"، وكأن ثقافة المجتمع الأميركي -مثلا- ليست قائمة على مفهوم القوة، وكأن العدو القابع خلف الحدود في تل أبيب - ولنتذكر جيدا كلمة العدو التي نسيها كثيرون ربما لكثرة ترديد تعبير دولة إسرائيل- قد تخلى عن الحرب، وكأن العدو لا يعلم أطفاله وتلاميذه في المدارس ويطعم مواطنيه عبر وسائل إعلامه العداء لنا جميعا، في لبنان وسورية ومصر وفلسطين المحتلة، ولتتذكر التعبير الأخير أيضا.

ثلاثة وثلاثون عاما مرت على طعم الانتصار وثمانية وعشرون عاما مرت على قصيدة الرائع "أمل دنقل" "لا تصالح" التي كتبها مهداة إلى الرئيس المصري الراحل أنور السادات، صاحب مشروع ومبادرة السلام والزيارة "التاريخية" إلى القدس والكنيست الإسرائيلي في محاولة جريئة - ويائسة في آن واحد- لكي يقنع أولئك الغرباء عن هذه الثقافة وهذه الجغرافيا "أننا" مستعدون لقبولكم معنا شرط أن تتخلوا عن الحروب والدمار.. عن العداء المطلق.. عن أوهام السيطرة وغرائز الاستعمار والظلم والقهر، قالها السادات جريئا وقويا وحالما - ربما- بإمكانية انتصار "روح الحضارة" على "روح الهمجية"، ولم ينجح في إقناعهم، ولم ينجح حتى في إقناع أميركا - رغم كل ما قدمه من تنازلات وأوراق اعتماد للتحالف معها- بالتخلي عن تحيزها، ولم ينجح آخرون بعده في إقناعها بأن إعادة الحقوق العربية هو مربط حل الصراع.

لم تستوعب النخب الحاكمة بعد كل تلك السنوات الطويلة أن السلام من دون الحقوق مجرد وهم كبير، وأن المعركة ما تزال قائمة لم تنته، وأننا نحتاج من جديد إلى الاحتشاد، إلى الرغبة في الانتصار.. إلى تغيير قناعات "الاستسلام" التي أصبحت راسخة للأسف، تقف وراء ترسيخها سياسات إعلامية وثقافية متدنية المحتوى والفكر.

إن لحظة صمود المقاومة اللبنانية وانتصارها - صغر أم كبر- والأثمان الغالية التي يدفعها الأبرياء - أطفالا وشيبا وشبابا- من أبناء لبنان لهي لحظة حبلى تستحق - ليس فقط التأمل- بل الرعاية والإسناد لكي تلد رؤية جديدة لخروج العالم العربي من مأزقه.. مأزق الانكسار والإحباط والهزيمة النفسية.. مأزق التخلف عن ركب الأمم الناهضة في العالم.

والمطلوب من المثقفين المصريين والعرب –الذين مازالوا قادرين على النفاذ إلى عمق الوضع الحالي- أن يبثوا وعيا جديدا في أذهان نخب وأجيال باتت تركن - للأسف- إلى خيار "السلام الوهمي" وإلى "وهن الاستسلام" "لواقعية سياسية" تتغذى على الضعف وقلة الحيلة في ظل صراع يؤججه عدو متربص، من الصعب - بل من المستحيل تقريبا- أن يستجيب إلى إرادة التعايش السلمي مع الآخرين من دون إجباره على ذلك، عدو لا يؤمن سوى بالقوة الغاشمة وسيلة للبقاء.
المقال منشور في جريدة الغد الأردنية بتاريخ 17/8/2006