ماذا حدث في نقابة الصحفيين.. "مااكرااام.. هوه.. هوه"
- أكاد أرى دون كيشوت على سلالم النقابة يحارب طواحين الهواء بسيف من خشب!
للمرة الأولى تقريبا في انتخابات نقابة الصحفيين يسير أحد المرشحين لمنصب النقيب وسط "زفة" من الأنصار يجولون مبنى النقابة من السرادق المنصوب أمامها إلى الدور الرابع حيث تتوزع لجان التصويت.. أحد أفراد "الجوقة" يحمل ميكرفون.. يهتف ويكرر وراءه آخرون: "مااكراااام.. هوه.. هوه" على وزن "أهليييييي.. هوه.. هوه"، فيما يتبادل الصحفيون في أروقة النقابة – ومنهم أيضا أنصار للأستاذ مكرم - نظرات الدهشة والاستهجان، ويتساءل القضاة رؤساء اللجان الانتخابية: "إلى هذا المستوى من الشعارات تدنى الصحفيون؟".
وهتافات أخرى على شاكلة "تنتخبوا مين؟ وحبيبكم مين؟" و"الكبير كبير.. مش عايزين تغيير".. تعبيرات تنضح بضحالة مستوى من ألفها، ولا تناسب ذوق ووعي كثير من الصحفيين، وكأن من يهتفون "أجرية انتخابات" قد نزلو توا من عربية كارو أو سيارة نصف نقل في حواري مصر.
بعض الخبثاء فسروا المشهد بأن حصانا عجوزا جريحا اكتشف فجأة أنه يمكن إزاحته من صدارة السباق بسهولة، فقرر استخدام كافة الأساليب الممكنة، أو أسلم قياده لمديري حملات الحزب الوطني، حتى لو كانت ستشوه صورته القديمة المعلقة على جدار.
على بعد خطوات من سلالم النقابة حيث تجمع أخيرا "هتيفة الانتخابات الكروية" – خليط من موظفين بمؤسسات حكومية وعمال مطابع وإداريين وسائقين في دار الهلال – وقف ضياء رشوان على باب النقابة يسلم على الداخلين للتصويت، ووردة جميلة تزين جيب جاكتته، وابتسامة لم تفارقه حتى بعد إعلان النتيجة، فقد فاز في الجولة الأولى رغم فارق الأصوات الضئيل لمكرم محمد أحمد، وأعيدت الانتخابات لعدم تحقيق أي من المرشحين 50 بالمئة + واحد من إجمالي الناخبين، وكانت نتيجة الجولة الثانية معروفة سلفا، فالرشاوى الانتخابية انهالت على معسكر مكرم، من المسارعة بحل مشكلة صحفيي الشعب، إلى زيادة بدل التكنولوجيا 80 جنيها (ثمن 2 كيلو لحمة تقريبا)، إلى توقيع بروتوكول مع هيئة الأوقاف لبناء مدينة للصحفيين في 6 أكتوبر، والادعاء بأن مكرم اتفق على تفاصيل سعر المتر الواحد والتزام الدولة بتوفير المرافق، رغم عدم صدور قرار التخصيص حسبما صرح رئيس هيئة الأوقاف في حينه، إلى استدعاء الصحفيين العاملين بالخارج (هربا من أجورهم المتدنية في مصر) بتذاكر طيران على حساب المؤسسات الحكومية، (أي أن حضرتك كدافع للضرائب تحملت جزءا من مصاريف نقل صحفيين للتصويت لصالح مرشح نقابي لم يدفع شيئا من جيبه الخاص).
في عام 2000 كان النقيب إبراهيم نافع والمرشح لدورة ثانية أكثر حصافة، أرسل تذاكر طيران إلى جميع الصحفيين في الخارج – من ينتمون إلى صحف حكومية أو غير حكومية - على حساب نقابتهم.. هذه المرة – على سبيل المثال - أرسل الأستاذ عبد الله حسن رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط فاكسا يدعو فيه مراسلي الوكالة للقدوم على حساب الوكالة ودعاهم نصا إلى التصويت للأستاذ مكرم.. وبعد نشر صورة من الفاكس تراجع رئيس الوكالة وأظهر فاكسا آخر.. وكذلك فعلت مؤسسة الأهرام.
لكن فكرة إرسال تذاكر لجميع صحفيي الأهرام العالمين بالخارج ومراسلي الوكالة ألغيت خوفا من أن يصوت عدد منهم لصالح ضياء رشوان، وتم انتقاء صحفيين بعينهم حوالي 50 وأرسلت لهم تذاكر طيران ذهاب وعودة، (بتكلفة في المتوسط 100 ألف جنيه على حساب دافع الضرائب)
أما أنصار الأستاذ مكرم في الحزب الوطني فكانوا أكثر كرما، استضافوا مراسلي الصحف الحكومية في المحافظات في أحد فنادق "المهندسين" ليلة أو ليلتين، نعموا فيها بكرم ضيافة بالغ – حسب تعبير أحدهم- وتكفل المحافظون بنقلهم إلى القاهرة لكي يدلوا بأصواتهم لصالح الأستاذ مكرم.. فيما تكفل مالك جريدة عشوائية ورئيس تحريرها في نفس الوقت بتعليق لافتات تأييد جديدة لمكرم قيمتها 22 ألف جنيه.
في حوالي الساعة الثانية ظهر جولة الإعادة، رن الموبايل، رقم تليفون أرضي..
- فلانة من جريدة الأهرام.
- أهلا وسهلا.
- أذكرك بموعد انتخابات جولة الإعادة.
- يا أستاذة أنا في لجنة الانتخابات بالفعل.
- طيب كويس ياريت تدي صوتك للأستاذ مكرم.
- يا أستاذة ميصحش.. ما تفعلينه مخالف للعرف ومخالف للقانون.. من سيدفع فاتورة التليفون هو جريدة الأهرام "القومية" - كما يقال - والتي يملكها قانونا شعب مصر وليس الحكومة المصرية ولا الحزب الوطني ولا رئيس مجلس إدارة الأهرام ولا رئيس تحريرها ولا أنصار الأستاذ مكرم فيها.
الحقيقة أنها شعرت بالحرج ولم تجد كلمات تعقب بها.. سألت زملاء آخرين فأكدوا جميعا أنهم تلقوا في نفس التوقيت تقريبا اتصال من رقم أرضي في الأهرام يدعوهم إلى التصويت للأستاذ مكرم..
عشية جولة الإعادة، حدث الشيء نفسه، لكن من مجلة المصور، شاب يقول إنه صحفي في المجلة، يذكرني بأن موعد الإعادة غدا، ويوصيني خيرا بالأستاذ مكرم.. هزلية الموقف أوحت إلي بأن أكمل الهزل إلى نهايته..
- شكرا يا أستاذ.. هل تحمل هذه الرسالة من الأستاذ مكرم.
- نعم.
- طيب من فضلك أبلغه التالي: "أستاذ مكرم صوتك أمانة.. ياريت تديه لضياء رشوان لأن ضياء نعرف نحاسبه أما حضرتك فلا نستطيع".
ارتبك الشاب ولم يجد إجابة سوى "طيب طيب هبلغه".
(يمكنك أن تحسب تكلفة الاتصال من تليفون أرضي بـ 5633 موبايل لأعضاء الجمعية العمومية الذين يحق لهم التصويت في متوسط دقيقة للاتصال مرتين، مرة من الأهرام ومرة من المصور، يصبح الإجمالي 11266 جنيها قابلة للزيادة)
عن نفسي، قمت بالدعاية لمرشحي، بأسلوب لا يمثل أي مخالفة للقانون، التقيت أصدقاء وزملاء قدامى في وكالة الأنباء الألمانية ورويترز والأسبوع والأحرار، واتصلت بهم عبر هاتفي المحمول، وبأدب وعشم الزمالة ولأسباب محددة دعوتهم لمناصرة ضياء رشوان، "ولكم حرية الاختيار في النهاية"، فوجئت بأن أحدهم يقول لي "لقد عملت مع الأستاذ مكرم أكثر من ستة عشر عاما، وأكن له مودة التلميذ لأستاذه، لكنني وددت هذه المرة أن أقول له يا أستاذ مكرم لا داعي لأن ترشح نفسك، دع الفرصة للشباب.. لكني امتنعت عن أن أقول له ذلك خوفا من رد فعله، وحرصا على مشاعره".
في داخل اللجان، لاحظ كثير من الزملاء أن هناك أعدادا من الناخبين جاءوا لأول مرة إلى الانتخابات، (إجمالي الفارق بين المصوتين في الجولة الأولى والثانية نحو ألف صوت)، وكأنهم يصوتون لأول مرة في حياتهم، رغم أن أعمارهم تتجاوز الأربعين والخمسين.. ناخبة تحمل كارنيه النقابة، أخذت بطاقة التصويت وذهبت خلف الستارة، ثم فجأة نادت "إلحقوني يا جماعة.. أنا كتبت اسمي في الورقة.. ممكن ورقة تانية"، رغم أن رئيس اللجنة نبهها قبل أن تدخل لأن تكتب في المربع داخل البطاقة اسم من ترشحه للمنصب.
سيدتان تحملان كارنيه النقابة، اسم كل منهما خديجة، الأولى أخذت بطاقة التصويت ولم تذهب إلى خلف الستارة، تنتظر صديقتها لكي يصوتا معا..
- يا أستاذة ما يصحش.. حضرتك لا زم تصوتي لوحدك.
- بس احنا الاثنين اسمنا خديجة.
- ولو يا أستاذة.. لازم سرية التصويت.
دخلت وصوتت، ثم خرجت بالبطاقة مفتوحة، وأظهرت لخديجة الثانية اسم من صوتت له.
- يا أستاذة كده مخالف.. لا يصح أن تظهري لأحد اسم من أدليت بصوتك له.
تذكرت ما كان يتردد منذ منتصف التسعينات عن دفع رؤساء تحرير ومجالس إدارات مؤسسات صحفية حكومية لضم أعداد من الإداريين والموظفين والسكرتارية للنقابة، لكي يكونوا أصواتا حاسمة في الانتخابات يوما ما.
كان مشهد وجبة الغداء مثيرا للريبة والغثيان في نفس الوقت.. في اللجان يأتي مسئولو الدعم اللوجيستي لحملة الأستاذ مكرم فيتركون وجبات تكفي جميع الموجودين من مندوبيهم ومندوبي ضياء وأعضاء اللجنة القضائية، ثم يأتي أحدهم من الأهرام بوجبات تكفي العدد الموجود أيضا، ثم يأتي ثالث من الأخبار.. بالإضافة إلى وجبات الناخبين من المؤسسات الحكومية يتسلمونها ببونات، الوجبة تكلفتها في المتوسط 30 جنيها، ولو ضربت عدد أصوات المؤسسات الحكومية في ثمن الوجبة الواحدة لبلغ الرقم نحو 90 ألف جنيه (على حساب دافع الضرائب).
بعد حرج الجولة الأولى كان الأستاذ مكرم ميالا للانسحاب، وبعد جلسة مع عدد من أصدقائه للمشورة نصحوه بإرسال مذكرة للرئاسة ادعى فيها أن القوى السياسية تدخلت ضده في الجولة الأولى، وبالتالي يجب أن يتدخل الحزب الوطني وكافة مؤسسات الدولة لدعمه، وتوافق مضمون المذكرة مع تصريح "غريب" أطلقه علي الدين هلال أمين إعلام الحزب الوطني قبل انتخابات الصحفيين بفترة قصيرة قال فيه "لو تدخلت الجماعة المحظورة (يقصد جماعة الإخوان المسلمين) سنتدخل لدعم مرشحنا"، وبعدها روجت شائعة أن ضياء رشوان إخواني، وهنا اكتملت جملة علي الدين هلال، واكتملت الصورة يوم الإعادة.. الحزب الوطني يسيس معركة الانتخابات، يرسل أمناء إعلامه داخل النقابة يتابعون أولا بأول سير التصويت والحشد، يدخلون إلى اللجان في سابقة هي الأولى من نوعها ليسألوا عن حجم الإقبال على التصويت، ويدفع الحزب الوطني بممثلي أحزاب ورقية صديقة مثل "حزب شباب مصر" و"حزب الغد" مكرر ليحتشدوا تأييدا لمكرم، ويجمعوا فتات الأصوات من هنا وهناك.
ورغم كل ذلك الاحتشاد والدعم والرشاوى والوعود بعث نحو 60 بالمئة من أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين (3361) برسالة رفض لمرشح الحكومة مكرم محمد أحمد.. 1561 صحفي صوتوا لضياء رشوان في الجولة الثانية بزيادة مئة صوت عن الجولة الأولى (رفض إيجابي لمكرم)، وامتنع 1800 صحفي عن الحضور ليبلغوا رسالة رفض سلبي لمرشح الحكومة.. أي أن كل هذا الضجيج الحكومي لم ينجح سوى في جذب 922 صوتا من إجمالي من لم يحضروا أو يصوتوا لمكرم في الجولة الأولى نحو 4136 صوت.
فلماذا قدمت كل تلك الرشاوى ولماذا دعمت الحكومة والحزب ورؤساء تحرير الصحف الحكومية والمحافظون حملة الدعاية للأستاذ مكرم بهذه الطريقة "المهينة" لتاريخه النقابي، وتدخلوا في انتخابات الصحفيين – حسب تعبير د. علي الدين هلال؟ لأنهم اعتبروها بروفة لانتخابات الرئاسة، وأقنعوا القيادة السياسية – كذبا- بأن المحظورة ستتدخل لصالح ضياء، ولأنهم لا يريدون بالفعل أن يتمتع الصحفي بحريته الكاملة من خلال تحسين أجره، ذلك المطلب الأساسي للصحفيين، والموضوع الرئيسي للانتخابات، فلم تتضمن حملة الأستاذ مكرم أي ذكر لأجور الصحفيين، فهو نفسه فور توليه منصب النقيب منذ عامين أحبط التفاوض مع الدولة استكمالا لما بدأه النقيب السابق جلال عارف، ووضع مكرم مشروع تعديل الأجور في الثلاجة طوال السنتين الماضيتين.
كنت شاهد عيان على الانتخابات في جولتيها الأولى والثانية وعندما يسألني أحد الأصدقاء: في رأيك ماذا حدث في نقابة الصحفيين؟. أتذكر بسرعة ذلك الهتاف "مااكراااام.. هوه.. هوه".. باعتباره يلخص ما حدث.. وأتذكر خيول السباق في لحظات شيخوختها، مرتبكة الخطى منهكة على وجوهها بقايا باهتة من شموخها القديم.. فاز ضياء رشوان المرشح لأول مرة لمنصب نقيب الصحفيين باحترام كثير من الصحفيين والمتابعين لانتخاباتهم، وأنهى الأستاذ مكرم محمد أحمد مسيرته النقابية بفوز هزيل وقفت فيه الحكومة والحزب مع الشيوخ ضد الشباب، ليصبح في العامين القادمين نقيبا مودعا.. حارسا على سلالم النقابة يمنع "ذئبا إخوانيا وهميا" من الدخول.. لماذا أتذكر دون كيشوت يحارب طواحين الهواء بسيف من خشب!
بيان من الصحفيين المصريين بالخارج لتأييد ضياء رشوان
أصدر صحفيون مصريون يعملون بالخارج بيانا تعبيرا عن تضامنهم مع تيار الاستقلال في انتخابات نقابة الصحفيين، وتأييدهم لمرشحه ضياء رشوان، مؤكدين في الوقت نفسه أن تأييدهم ليس مبايعة نهائية وليس صكا على بياض بل انحياز مرتهن بكشف حساب مستقبلي.. وهذا نص البيان الذي وقعه كل من خالد محمود ومجدي شندي ومؤمن أحمد وخالد الدخيل وأحمد هاشم ووليد الشيخ وطه خليفة وطلعت اسماعيل وقطب العربي وفراج اسماعيل وأحمد عمر وأشرف جبريل ومحمد المعتصم وزهير العربي وخالد حريب ورضا حماد ومحمود الحضري وعبير العسكري.
نعم نستطيع التغيير
تواجه جماعتنا الصحفية تحديات عدة سواء داخل مؤسساتها القومية التي تسيطر على معظمها قلة ترفعها الحكومة فوق الرؤوس، ليس على قاعدة المهنية وإنما احتكاما إلى الولاء السياسي وحده، أو الحزبية المبتلاة بدفع ثمن الصراعات السياسية الداخلية، أو الخاصة المحاطة بأجندات وتوجهات بارونات جدد يستخدمونها لتعزيز نفوذهم وسطوتهم، وليس البحث عن الحقيقة والالتفات الى الدور الرسالي الذي يجب أن تلعبه الصحافة ضمن برنامجهم ولا على أجنداتهم.
ويقف الصحفي المصري شبه أعزل في مواجهة هؤلاء، وفي مواجهة بنية تشريعية وقوانين نشر لا تمنحه الضمانات الكاملة، فاضطر أصحاب كثير من الكفاءات المهنية إلى الجلوس في بيوتهم أو الهجرة إلى الخارج، ومن ثم لم يعد لنا قلعة تحمينا وسط هذه الأنواء سوى نقابتنا.
على ذلك فإن المعركة الجارية بين تيار الاستقلال والتغيير ممثلا في المرشح ضياء رشوان، ومرشح الحكومة مكرم محمد أحمد تمثل منعطفا في دفاع جماعتنا الصحفية عن ذاتها ورزقها وحريتها ومستقبلها، حيث لم تعد هذه الجماعة تمتلك ترف ترك نقابتها للقوى التقليدية والبيروقراطية الحكومية، وأصبح انحياز هذه الجماعة لقوى التغيير أولا ولرموز شرعيتها الوحيدة (وليس علاقتها بالحكومة) ثانيا أمر لا يمكن تفاديه.
التغيير طريقنا الوحيد نحو المستقبل، وأولى استحقاقاته وجوه جديدة تمثل أحلام وأشواق وطموحات شباب الصحفيين، وبرنامج انتخابي في قلبه ضمانات بالحياة الكريمة للصحفيين من دخل ورعاية صحية ورعاية تقاعدية مناسبة، وآليات واضحة لتحقيق الخطوط العريضة لهذا البرنامج، وضمانات للدفاع عن الصحفي ضد الحبس وقوانين النشر الجائرة، ومع تمكينه من حقه في الحصول على المعلومات ورفع مستواه المهني.
لهذه الأسباب فإننا بوصفنا مجموعة من الصحفيين المصريين بالخارج نتابع بوجداننا معركة التغيير داخل جماعتنا الصحفية، ندعم ونؤيد تيار الاستقلال النقابي ممثلا في المرشح ضياء رشوان بوصفه الأقرب إلى حلمنا وطموحنا بغد صحفي أكثر إشراقا، كما نعتبر برنامجه الأقرب إلى تطلعاتنا مؤكدين أن تأييدنا ليس مبايعة شخصية صوفية، ولا صكا على بياض، وإنما انحياز محسوب مرتهن بكشف حساب مستقبلي.
صحفيون مصريون بالخارج
للتوقيع رجاء ارسال بريد الكتروني على magdishendi@hotmail.com
نقابة الصحفيين وخيل الحكومة
حين تصبح خيول السباق طاعنة في السن، عاجزة عن تحقيق الفوز في السباقات، يعطف عليها أصحابها من باب العرفان والرحمة، فيحجبونها عن المشاركة فيها، يوفرون لها مرعى أخضر تمرح فيه بقدر ما تبقى فيها من رمق قوة، تستريح من عناء المنافسة ولهيب السياط على ظهروها، تستجم تحت سماء مفتوحة، وتنعم بالهدوء والدعة.. لكن أصحاب الخيول عندما تختلط لديهم الأوراق، ويفشلون في تقدير قوة أحصنتهم، يدفعونها دفعا لخوض سباقات تقطع أنفاسها، ويظهر عجز الشيخوخة واضحا في ارتباك خطواتها.. فتبقى في الذهن صورتها الأخيرة.. منهكة خائرة القوى.. قابلة لكسر شموخها القديم.
أما خيل الحكومة حين تشيخ فتلقى من الإهانات الكثير.. لو لم تتلق رصاصة الرحمة يبيعونها إلى عربجي جاهل، لا يقدر ماضيها العريق، يربطها في مقدمة عربية كارو لتجر ما يضعه عليها من بضائع حقيرة، فتظل ترفل في الأوساخ حتى تنهي المقادير حياتها.
لو أنني في مكان نقيب الصحفيين الأستاذ مكرم محمد أحمد ولدي ما لديه من تاريخ نقابي ومهني محترم ما قبلت على نفسي أن أقضي سنوات ما بعد الخروج من المؤسسة في القيام بأدوار مرهقة، ولاخترت أن أستمتع بحياتي.. أن أختم مسيرتي بما يليق بتاريخي، لا أن أدخل معارك صغيرة على رئاسة النقابة فأواجه منافسا شابا (في الخمسين) يدخل الانتخابات لأول مرة فيسبب لي الإحراج.. لو أنني مكان الأستاذ مكرم لأدركت سنة الحياة، ولما واجهت رأيا نقابيا عاما يريد التغيير، ولاعتذرت عن تكليفات لن أجني منها بقدر ما سيجني الآخرون.
أجندة التغيير في نقابة الصحفيين المصريين لا تعني الأشخاص بقدر ما تعني الموضوع، فقدوم الأستاذ جلال عارف إلى منصب النقيب منذ ست سنوات، ونجاح عدد كبير من الصحفيين من غير الصحف "الحكومية" في انتخابات المجلس كان يعني أن الجمعية العمومية قد ضاقت ذرعا بتولي الحكوميين دفة العمل النقابي، وأن المطلب الأساسي لعموم الصحفيين وهو تعديل أجورهم بات مطلبا ملحا وضروريا، لا ينبغي أن يظل مرتهنا بأجندة الحكومة ورؤساء تحرير صحفها، ثم جاء الأستاذ مكرم قبل عامين ومعه غالبية مدعومة حكوميا إلى مجلس النقابة لتكمل وأد رغبة الصحفيين في تحسين أوضاعهم المالية بتقديم "رشاوى انتخابية" متواضعة، وكأنها حبوب لتسكين الألم لا لعلاجه الجذري، رشاوى ترضي محدودي الوعي قليلي الطموح، وتتسق مع منهج سياسي متبع منذ فترة طويلة في التعامل مع الصحفيين، "جوعهم تجدهم في خدمتك"، ولا يهم انحدار المهنة، ولا يهم أن تصدر صحف لمجرد الابتزاز، ولا يهم أن تختلط المادة التحريرية بالإعلانية، ولا يهم أن يتحول الصحفي مندوب جريدته في وزارة إلى مندوب الوزارة في الجريدة، وليذهب ضمير الصحفي إلى الجحيم.
لم يكن مفاجئا إذن أن تعود من جديد رغبة التغيير بقوة، وأن يحتشد نحو ألف وخمسمئة صحفي وراء ضياء رشوان المرشح لأول مرة لمنصب النقيب، وأن يتمكن الأستاذ مكرم محمد أحمد بالكاد وفي آخر نصف ساعة يوم الانتخابات من حشد النصاب القانوني للجمعية العمومية، وأن يعجز عن حصد نصف الأصوات الصحيحة، وكأنه لم يحصل إلا على تأييد ربع أعضاء الجمعية العمومية، فما بالك لو كان جلال عارف صاحب التاريخ النقابي قد ترشح أمام مكرم!
انتهت الجولة الأولى بتعادل بطعم الفوز لضياء رشوان، وتعادل بطعم الهزيمة للنقابي المخضرم مكرم محمد احمد (نحو عشرون عاما في العمل النقابي)، تعادل كان مفزعا لأروقة النظام السياسي، فتداعى كبار المسئولين في الحكومة لدعم مكرم وعرضوا تقديم مزايا إضافية له تساعده في حسم جولة الإعادة، لكنها لم تخرج عن نفس النهج القديم "رشاوى انتخابية" بديلة عن المطلب الأساسي. واحتشد رؤساء تحرير الصحف الحكومية وانبرى بعضهم لمواجهة ما سموه "دكاكين الصحافة"، دون أن يدركوا أنهم أيضا ينطبق عليهم نفس الوصف "دكاكين الحكومة".. صحف خاسرة وميزانيات ملفقة، لكنهم يحصلون دائما على الحوافز والمكافآت، بعضها أرقام مليونية سنويا، فلماذا لا يقفون ضد مرشح يريد تعديل ميزان مختل، ويدعمون مرشحا أحبط على مدى العامين الماضيين مشروع تعديل الأجور رغم أنه كان أحد وعوده الانتخابية!
أيا من كان الفائز في جولة الإعادة ستظل رغبة التغيير قائمة، فالقضية الأولى للصحفيين ليست سياسية بالمعنى المباشر، ليست الموقف من التطبيع ولا من توريث السلطة، القضية مهنية بجدارة، حرية الصحفي عبر تعديل أجره وتحسين مستوى حياته.
الدستور 13 ديسمبر 2009
ثم ماذا بعد؟
مصر الرسمية مرتبكة.. ومصر الشعبية مجروحة في كرامتها ولاعبو الكرة أصبحوا منظرين سياسيين!
ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد واقعة 18 نوفمبر في أم درمان السودانية.. هل تظل إلى الأبد تلك الحملة الإعلامية المتبادلة بين صحف الحكومة المصرية وقنواتها الإعلامية والفضائيات الخاصة من جانب والصحف الجزائرية من جانب آخر؟
لو أنك تتابع الصحف الجزائرية لقرأت مثلا سبابا للمصريين.. كل المصريين "أحفاد وأبناء سامية جمال وتحية كاريوكا وفيفي عبده" حسب تعبير جريدة الشروق في مقال يقارن بين الجزائريين "أحفاد جميلة بوحريد" والمصريين! إلى هذا المستوى وصلت حقارة الحملة الإعلامية.
وفي مصر أيضا بلغت السفالة مستوى غير مسبوق.. إعلامي يتصل ببرنامج "البيت بيتك" على الهواء مباشرة ويقول "بصراحة.. إحنا منعرفش الجزائريين غير من حريمهم"، (ولا داعي لمزيد من التوضيح)، فيضحك تامر أمين وخيري رمضان مقدما البرنامج، ولا يقول أحدهما " عفوا.. كده عيب".
نعم ما حدث في شوارع أم درمان والعاصمة السودانية الخرطوم عقب المباراة - حسب شهادة الشهود – مهين وجارح لكرامة الجمهور الذي ذهب لتشجيع المنتخب الوطني ولكافة المصريين، ويستحق وقفة وإجراءات عملية لإزالة آثاره ومنع تكراره، لكنه لا يقتضي أبدا تعميق مشاعر الكراهية وإصدار أحكام عامة وتأليب رغبات وغرائز الثأر والانتقام.. ففي ظل هذا الكم الهائل من الشحن الإعلامي يصعب أن يندمل جرح الإهانة، وتحتاج إعادة العلاقات الودية بين الشعبين – وليس فقط جمهور الكرة متواضع الوعي قليل المعرفة بالتاريخ – إلى فترات أطول.
خذ مثلا.. على شاشة التليفزيون طالب أحدهم بتغيير اسم ميدان الجزائر في المعادي، وفي اليوم التالي دار هذا الحوار في ميكروباص:
السائق – اسمه خلاص اتغير بقى ميدان الجزيرة.
شاب من الركاب- لأ.. اسم الجزيرة ما ينفعش.. القناة القطرية دي تبع إسرائيل.. إنت متعرفش إن إسرائيل ليها 13 قاعدة عسكرية في قطر!
(ولك أن تتأمل ضحالة معلومات المشجع الكروي الشاب – قطر بها قواعد عسكرية أمريكية ومقر القيادة المركزية الوسطى وقد انتقل إليها من السعودية بعد حرب الخليج الثانية في 1991)
كنا قد وصلنا إلى ميدان الجزائر بالفعل، وأشار السائق إلى لافتة مكتوب عليها "ميدان الجزيرة" ورقة بيضاء مطبوعة على الكمبيوتر ألصقها مشجع كروي في الغالب على أحد الجدران في الميدان!
هي برامج إعلامية فاشلة، القائمون عليها ضعيفو الأداء محدودو المهنية، وبينهم شتامون بالدرجة الأولى يفتقدون للحس السياسي فيلجأون للإثارة وركوب الموجة، بغض النظر عن النتائج على المدى القريب أو البعيد، المهم أن ترضى القيادة السياسية التي وجدت نفسها عاجزة وظهر ارتباكها واضحا، لأنها لم تستعد جيدا لموقف متوقع.. فالعنف لدى جماهير الكرة الجزائرية ظاهرة معروفة منذ زمن طويل، حتى في مباريات محلية وودية في الجزائر نفسها.
الأسوأ أن يجلس لاعبو الكرة وإعلاميو البرامج الرياضية في كراسي منظري السياسة، فيعلنون وفاة القومية العربية وانتهاء زمن العروبة، والأنكى أن يشاركهم منظرون سياسيون تابعون للحزب الحاكم في ذلك "الإعلان الغبي"، ويرفعون دعوة بأن "تلتفت مصر إلى الداخل وإلى مصالحها"، أن تتوقف عن الانتماء العربي "لأن العرب يكرهون مصر" ثم يقول مفكر حكومي بارز – رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب د.مصطفى الفقي – "العرب لا يحبون ولا يكرهون.. وإنما يهابون.. ويجب أن يهاب العرب مصر هم الذين دفعونا لهذا".
أحاديث أقرب إلى المساخر السياسية، وكأن أقدام لاعبي كرة القدم أصبحت هي التي تفكر! وكأن مصر مازالت بعد لم تفارق ستينات عبد الناصر عندما أرسل الجيش المصري إلى اليمن ليدعم ثورته، أو بعث مدرسين إلى الجزائر لتعريب مدارسها، وإزالة إرث الاستعمار الثقافي وتدشين هوية عربية في الأجيال الجديدة.
هؤلاء الذين يتحدثون عن ضرورة "تطليق" العروبة لا يدركون معنى أن تصبح علاقات مصر بالجزائر سيئة، وبالسودان مهددة بالتوتر، وبسوريا متدنية وبلبنان مرتبكة وبقطر عصبية وبحماس واهية.. لا يعرفون أن دور مصر الدولي يعتمد على مدى تأثيرها في محيطها العربي، وأن قوة مصر مرهونة بحضورها في العالم العربي، وأن فكرة عبد الناصر "القومية العربية" – وبغض النظر عن أي تحفظات على أسلوب أدائها بعد كل هذه السنوات – كانت بالأساس مشروعا استراتيجيا لتأمين مصر، وتدشين حدود دفاعية – سياسية وثقافية وعسكرية أيضا- في مواجهة الاستعمار أولا ثم الهيمنة الخارجية ثانيا.. وأن ما ترسخ في أذهان صناع السياسة الخارجية المصرية على مدى أجيال من تلك المرحلة "العروبية" أن تلك الفكرة هي رؤية صحيحة عمليا بغض النظر عن الأيديولوجيات، وأنها تصب في خانة المصلحة المصرية الخالصة، وتصب أيضا في مصلحة الدول العربية.
هؤلاء لا يعرفون أن روح انتصار أكتوبر التي طالب أغبياء محدودو الفكر أن نتحلى بها في معركة كرة القدم مع الجزائر كانت وليدة حالة غير مسبوقة من التضامن العربي والتنسيق العربي المشترك، ليس فقط على المستوى السياسي بل والعسكري والاقتصادي.. وكانت الجزائر تحديدا في مقدمة الدول العربية الداعمة لحرب أكتوبر إلى جانب العراق والسعودية واليمن والكويت والإمارات....
السؤال عن ماذا بعد؟ يقتضي أيضا السؤال عن ماذا قبل.. عن أسئلة بديهية.. لماذا لم يلتق الرئيسان المصري والجزائري قبل مباراة القاهرة في 14 نوفمبر ليصدرا بيانا مشتركا أو يعقدا مؤتمرا صحفيا يقولان فيه كلاما بسيطا للغاية.. هي مباراة لكرة القدم سيخرج أي من الفريقين فائزا.. وأي منهما سيمثل عرب إفريقيا في المونديال العالمي.. لماذا لم يتصل مبارك وبوتفليقة هاتفيا على الأقل قبل المبارة الأولى أو حتى قبل المبارة الثانية لكي تهدأ الجماهير الكروية بدلا من شحنها إلى أقصى مدى وكأن المسألة حياة أو موت.. حياة من وموت من؟ لماذا لم يوقفا التحريض الإعلامي في مصر والجزائر قبل أن تحدث واقعة الخرطوم- أم درمان.. والتي كانت مرشحة لسيل من الدماء لو فازت مصر!!! أم أنهما تحادثا هاتفيا ولم يتفقا على شيء كما يتردد في الكواليس السياسية؟
في اليوم التالي لمباراة القاهرة قال لي صحفي جزائري شاب "لو فازت مصر في المبارة الفاصلة أو لم تفز ستحدث مجزرة للجمهور المصري في السودان فالجزائريون –يقصد الجمهور- ذاهبون للانتقام"!، وقبيل المبارة أيضا قال شهود عيان من صحفيين ومسئولين مصريين في السودان إن الجمهور الجزائري اشترى أسلحة بيضاء بكميات كبيرة.. فأين كان المسئولون عن أمن الجمهور المصري المسافر إذن؟ أين كان من يتشدقون الآن بأن أمن المواطن المصري في الخارج مسئولية الدولة؟ هل كانوا في غيبوبة، أم أن البيروقراطية تعطل اتخاذ قرارات مهمة أو تفوت عليها الوقت حتى يصل الأمر للرئيس شخصيا، أين كانت أجهزتنا الأمنية العظيمة.. أين اهتمامها ومتابعتها خاصة أن ابني الرئيس شخصيا كانا بصحبة الجمهور.. وماذا لو كان موكبهما قد تعرض – لا سمح الله – لأذى، أو حوصرا في فندق أو منزل كما حدث للمطرب محمد فؤاد وعدد كبير من الجماهير الكروية؟
من يتحدث الآن عن أمن المواطن المصري في الخارج ينبغي أن يعترف بأنه مقصر من البداية، وأن كارثة أسوأ كان يمكن أن تحدث!!
لا أعرف لماذا تذكرني مشاهد البلطجة في العاصمة السودانية يوم 18 نوفمبر – حسبما يرويها شهودها- بمشاهد حدثت في مصر في الانتخابات البرلمانية 2006.. بلطجية ومسجلون خطر يحملون السنج والمطاوي والسيوف ليمنعوا الناخبين من الإدلاء بأصواتهم!
نظام في القاهرة يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد الانتخابات، ونظيره في الجزائر يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد مباراة في كرة القدم والانتقام لقذف سيارة لاعبيه بالطوب أو لقتلى مزعومين بين مشجعيه في المباراة الأولى في مصر!
هل من أوجه تشابه أخرى.. نعم هناك.. ما السبب في هذا الدعم الهائل والحشد المعنوي غير المسبوق من أجل انتصار في مباراة لكرة القدم يفترض دائما أنها قد لا تأتي بالنتيجة المرجوة.. فأكبر الفرق وأحرفها تتعرض لخسائر غير متوقعة حين لا يحالفها الحظ أو التوفيق! لماذا الرهان على رمية كرة أو رمية زهر! هل انعدمت إنجازات النظامين السياسيين إلى هذا الحد! (لك أن تراجع أرقام من يعيشون تحت خط الفقر في مصر والجزائر.. النسب مخيفة.. عشرات الملايين على الجانبين)، أم أن النظامين في القاهرة والجزائر اعتادا تلهية الجماهير بانتصارات "مصطنعة" تخفف عبء حياتهم اليومية البائسة.. تسكت أوجاع البسطاء بالأوهام وتؤهلهم للالتفاف حول قيادات سياسية فاسدة قادمة أو مستقرة على كراسيها منذ زمن بعيد!
المشهد مؤسف بجدارة.. الفنانون المصريون يقاطعون الجزائريين، وهيئات التدريس في الجامعات والأزهر تقاطع نظيراتها في الجزائر، والرياضيون أول المقاطعين.. وأصحاب الأعمال التجارية يخشون على رؤوس أموالهم واستثماراتهم.. فماذا سيفعل السياسيون! يسحبون السفراء ويواصلون الضغط الشعبي والدبلوماسي، ويحاول كل جانب استمالة العرب الآخرين إلى صفه!
ثم ماذا بعد؟ متى يتحكم العقل؟ متى يتوسط أحد "العقلاء العرب" لكي يجمع بين مبارك وبوتفليقة في مصر أو الجزائر أو ليبيا أو السودان لكي "ينهوا أزمتهما وأزمتنا معهم"، لا أتوقع ولا أتمنى بالطبع أن تتوسط إسرائيل كما تندر أحد الساخرين.
أيمن شرف – اليوم السابع ديسمبر 2009
لقاء مع الرئيس
في أول أيام عيد الأضحى عام 1977 خرج مجموعة من الأصدقاء.. صبية في الخامسة عشرة من أعمارهم من قريتهم الصغيرة بمحافظة المنوفية.. وقفوا على الطريق الزراعي ينوون السفر إلى المركز ليقضوا فسحة العيد.. يركبون قاربا في أحد فروع النيل.. وربما يدخنون السجائر بعيدا عن أعين أهاليهم ومعارفهم.. لكنهم وجدوا "أتوبيس" يقف على المحطة فارغا، لا كمساري ولا يحزنون، به أحد الموظفين بالمجلس القروي أغراهم بالسفر إلى القاهرة "تعالوا هتقابلوا الريس"، ولم يقل لهم أين أو متى.. فرحوا بالمغامرة.. وبرحلة إلى القاهرة.. "مصر" بلغة أهل الريف، بدلا من المركز المتواضع..
في اليوم السابق كان الرئيس أنور السادات على شاشة التلفزيون في القدس.. في تلك الرحلة المفاجئة العجيبة.. بكى أحدهم وهو يشاهد الرئيس يصافح موشي ديان بعينه المعصوبة، فقد كان يعتبره قاتل اثنين من الجيران شاركا في حرب أكتوبر 1973 وسميت مدرستان في القرية باسميهما مسبوقين بلقب الشهيد.. لماذا ذهب الرئيس؟ لم يكن عقله وقتها يستوعب ما عرفه لاحقا.. لكن مشاعر غضبه وحزنه توارت في اليوم التالي.. يوم العيد.. أمام مغامرة الرحلة المجانية من القرية إلى العاصمة.
لم يكن أحدهم يعرف معالم الطريق ولا نقطة الوصول، ولا قال لهم الموظف أين سيتوقف بهم الأتوبيس.. فرحوا بمشاهدة شوارع مسفلتة، وبيوت من الطوب الأحمر والأسمنت، وانتهى بهم المطاف في نحو العاشرة صباحا تقريبا في الصحراء على طريق المطار.. ما بين أحاديث فارغة مر الوقت، ووجدوا آخرين جاءوا من قرى ومدن أخرى بنفس الطريقة.
بعد ساعات قرصهم الجوع، فعطف على بعضهم أحد المجندين في معسكر قريب وأعطاهم ما علموا بعد ذلك أن اسمه "جراية".. عيش مقدد يحتاج إلى أسنان قوية لقضمه، وكانت النكتة أن معهم نقود "مصروف العيد" وليس هناك في هذه الصحراء ما يشترونه ليأكلوه.
أما الموظف الذي غرر بهم لكي يأتوا إلى هذه الصحراء فقد احتمى من أسئلتهم ولومهم هو والسائق بأن أغلقا على نفسيهما باب الأتوبيس.
انقضى وقت الظهيرة ووقت العصر، وأوشك المغيب، وبدأ القلق يساور الصبية على موعد الرجوع، وراحوا يتساءلون متى يأتي الرئيس؟ وفجأة سمعوا صوت موكب قادم من بعيد، تتقدمه موتوسيكلات لم يروا مثلها من قبل..
أقل من ثلاث ثواني كان موعدهم مع الرئيس السادات، فقد مرت السيارة بسرعة شديدة أمامهم، ما علق بذهنهم من وجه الرئيس ابتسامة براقة، لم يعرفوا سرها إلا بعد أن كبروا، كان المشهد تمثيليا من الدرجة الأولى، الرئيس كان يريد أن يؤكد للعالم ولنفسه ولكاميرات التليفزيون الرسمي التي تصاحبه أن رحلته تحظى بشعبية كبيرة، فصدرت الأوامر للمحافظين وللداخلية بتوفير جمهور على طريق المطار.. آلاف من الكومبارس الطبيعي المخدوع برحلة إلى القاهرة.
في ذلك الوقت.. أواخر السبعينات وحتى بداية الثمانينات كانت فكرة مواكب الرئيس التي تستقبلها حشود الجماهير على جانبي الطرق بالتهليل والتحية ماتزال معتمدة كوسيلة لتأكيد شرعية الرئيس، حب الناس العفوي والتفافهم حوله – حتى لو كان الجميع بمن فيهم الرئيس يعرفون أنها مجرد خدعة – مبرر لوجوده في السلطة.
لكن اغتيال السادات في أكتوبر 1981 – ومحاولات اغتيال مبارك فيما بعد - جعلت وجود الجماهير قرب الرئيس عبئا أمنيا، ونذير شؤم ربما، وأصبح الهاجس من إمكانية تكرار واقعة السادات مانعا قويا أمام فكرة "حشد الجماهير" لتعبر عن حبها "الكاذب" للرئيس.. وأصبح حضوره المفاجئ لمباراة في كرة القدم من وراء زجاج ضد الرصاص اختيارا مفضلا، فيما أصبحت زيارته لمستشفى تعني إخلاءه تماما من المرضى والأطباء واستبدالهم بآخرين يمثلون أدوارهم، وزيارته لمصنع تعني حصول العاملين فيه على إجازة يوم الزيارة.
لم يعد الرئيس يلتقي أحدا من المخدوعين برحلة للقائه، بل يلتقي فقط بمن يمثلون أمام الكاميرات دور الشعب.. وحسنا فعل فقد أراح الآلاف ربما من قرصة جوع يوم عيد، وخيبة أمل في الصحراء على طريق المطار.
أيمن شرف - صوت الأمة نوفمبر 2009
أين ذهب أسامة الباز؟
في شتاء عام 2000 وبعد خطوات من مدخل فندق إنتركونتننتال أبوظبي، وجدت د.أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس مبارك أو مدير مكتبه للشئون السياسية، هكذا كان لقبه وقتها.. يسير خارجا وإلى يساره فتاة أو سيدة في منتصف العمر، خمرية مصرية الملامح.. كنت على موعد لإجراء حوار معه، حدده الملحق الإعلامي لسفارتنا، ولم يكن الباز يعرفني بالطبع، لم أنتظر حتى ألتقي ملحقنا الإعلامي، واستوقفت الرجل في منتصف الردهة، عرفته بنفسي، فلان من جريدة الاتحاد الإماراتية، وألقيت التحية على السيدة، ودار بسرعة حوار حول واقعة نشر صحيفة إماراتية - كان الباز يظن أنها جريدة الاتحاد – تغطية لندوة كان يتحدث فيها الباز، نسبت إليه خلالها عبارة "اليهود.. ولاد الكلب"، أوضحت أنني لا أمثل جريدة الخليج التي نشرت تغطية الندوة تحت ذلك العنوان، فعاتبني كصحفي على النشر بتلك الصيغة.. ولم أرد أن أدخل في التفاصيل حول صحة الواقعة من عدمها، لكنني قيمت الموقف في إجماله، الباز لم يكن يقصد بالتأكيد أن يهين اليهود كأصحاب ديانة، وإنما كان يريد التعبير عن غضبه الشديد تجاه مسؤولين إسرائيليين وأخطأ التعبير، فما مكسب الصحيفة والقارئ والمشهد السياسي عموماً من نشر الكلام بهذه الصيغة؟ أليس من الأعقل في مثل تلك الحالة أن يحمي الصحفي مصدره أو المسؤول السياسي من زلة لسان يمكن أن تثير زوبعة لا لزوم لها، ويمكن أن يتخذها الإسرائيليون ذريعة لوصمه مثلاً بمعاداة السامية.. وأضفت أن الصحفي ومحرر الديسك الذي وافقه على ذلك غلبا الإثارة على التعقل..
في تلك الأثناء كنا قد غادرنا باب الفندق إلى الهواء الطلق، حيث الشتاء هو الفرصة الوحيدة للسير في شوارع أبوظبي، إحدى عواصم الخليج التي يتصبب فيها الزجاج عرقا من شدة الرطوبة والحرارة، فالأماكن المغلقة بلا اسثناء مكيفة الهواء، وعلى زجاج فاترينات المحلات وواجهات المولات والمباني يمكنك أن تلحظ قطرات المياه تتكثف في الداخل بسبب فرق درجة الحرارة وكأنها العرق..
ألمح الباز إلى أن السيدة بجواره قريبته.. ابنة عمته أو شيء من هذا القبيل، وكأنه يرد على سؤال ظن أنه يدور في رأسي، - والحقيقة لم يكن قد ورد على ذهني أي سؤال- ثم قال "لو انتظرتني ساعة سأجرى معك حوارا عشرة دقائق"، فأجبت ضاحكا "عفوا يا دكتور.. أنتظرك ساعة يبقى الحوار نصف ساعة".
أدهشتني بساطة الرجل وتلقائيته، فقد تعودنا من كبار المسئولين غير ذلك، لكنني توقفت بعد الحوار عند ذهنه المرتب، ومنطقية طرحه للقضايا وتحليله لعناصرها، وإلمامه بتفاصيلها، وأثار دهشتي أيضا مهارة المرور العابر عند المواقف المحرجة، تلك التي يتمتع بها الآلاف من أبناء مؤسسة الكهنة المصرية الذين عاصروا مئات الفراعنة، وجلسوا إلى جوارهم ينصحونهم ويقدمون المشورة لهم.. مهارة الحواة في التعامل مع كائن يتمتع بنفوذ وسلطات تتجاوز – أحيانا بل وغالبا – حدود عقله..
عندئذ تذكرت أيضا ما حدث عقب المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا، وقتها شهدت الصحافة الحكومية حالة من التسخين السياسي ضد النظام الحاكم في السودان باعتباره ضالعا في العملية أو أن منفذيها انطلقوا من السودان بدعم معنوي أو مادي من الزعيم الإسلامي حسن الترابي، وازدادت السخونة إلى حد التهديد بضرب السودان، فخرج أسامة الباز بتصريح محدد أن مصر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تهاجم السودان، بعدها قال الرئيس مبارك نصا "من قال هذا الكلام (...) مبيفهمش حاجة".
ورغم حدة الخلاف في 1995 كما تشير اللغة التي استخدمها الرئيس أمكن احتواؤه، فالباز محل ثقته منذ زمن، والأمر بينهما، وليس فيه أطراف أخرى على شاكلة ما سيحدث بعد عشرة أعوام في 2005، عندما اختفى من المشهد السياسي في هدوء يثير الدهشة لدى الكثيرين ممن كان تواضع الباز يثير إعجابهم، فيتبادلون حكي قصص عن عدم تكلفه وحرصه على الاحتكاك بالناس لا الانفصال عنهم، ويتمنون لو كانت سمة يتحلى بها الوزراء والمسئولون..
شخصيا أتذكر قصة حكاها لي زوج أختي المتدين الملتحي عن واقعة مر عليها الآن أكثر من عشرين عاما، كان مسافرا إلى الإسكندرية بالقطار، ولم يسعفه الوقت لكي يحجز تذكرة من شباك التذاكر، راح يبحث عن مقعد خالي، وفوجئ بأن شخصا يناديه لكي يجلس، وبسرعة عرف من ملامحه أن ذلك الشخص أسامة الباز، كان قد حجز لنفسه مقعدين، لكنه وجد مسافرا لا يعرفه يبحث عن مقعد فعزم عليه ملحا بالجلوس.
أربعون عاما تقريبا قضاها ذلك الرجل البسيط قرب مؤسسة الرئاسة.. كان قريبا من السادات وكان دائما إلى جوار مبارك، وملف القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل أول وأهم ملفاته.. ثم خرج دون إعلان.. فالخدمة في سلك الحواة والكهنة لا تعني إمكانية أن تبقى مستقلا برأيك طول الوقت، بل مستعدا لقبول ما لا تقبله، وأن تعتذر أحيانا عما قلته، أو تتراجع عن تصريح أدليت به، وعندما تكتشف أنك تؤذن في مالطة، وأن وجودك لم يعد مؤثرا من قريب أو بعيد، أو أن وجهات نظرك كمستشار لم تعد تلقى قبول من تنصحه يتعين عليك الرحيل في هدوء وأن تلوذ بالصمت زمنا طويلا حتى يغيب عن المشهد من تطولهم كلماتك إذا تحدثت..
في 5 نوفمبر عام 2002 قال الباز إن الرئيس مبارك "لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة القادمة"، وأنه لا يفكر في توريث الحكم لابنه.. وفي اليوم التالي 6 نوفمبر 2002 قال بعبارة ملتوية إن "الرئيس مبارك لا ينوي تمديد حكمه مدى الحياة"، وأن من المبكر جدا قول ما إن كان سيخوض الانتخابات، وأكد مرة أخرى أن الرئيس لا يقوم بتهيئة ابنه جمال لتسلم السلطة، وأن جمال بالذات لا يعد نفسه لتسلم السلطة أو أي شيء من هذا القبيل.
أما التصريح المفاجئ والذي كان الباز أول من يعلنه فكان في مارس 2005، قال إن الرئيس مبارك يدرس فكرة تعيين نائب لأول مرة، وكانت التكهنات تشير إلى اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات.
فهل كان اختفاء أسامة الباز من المشهد السياسي أواخر 2005 مرتبطا بتلك التصريحات وما تعبر عنه من موقف، وأن الغاضبين من فكرة تعيين نائب من شأنها أن تقضي على أي أمل في ترشيح نجل الرئيس جمال كانوا وراء إزاحة الباز؟
ليس هناك شيء معلن عن أسباب الاختفاء المفاجئ، تردد أن الباز قدم استقالته للرئيس قبل انتخابات 2005 على خلفية الطريقة التي ستدار بها الانتخابات، وأن الرئيس لم يقبل الاستقالة في حينها وإنما منح الباز أجازة مفتوحة.. لكن المؤكد أن الباز لم يعد يذهب إلى مكتبه في الرئاسة، بل عاد أدراجه إلى المبنى القديم بوزارة الخارجية، يركب المترو كل صباح من ثكنات المعادي حيث يسكن إلى ميدان التحرير (أو محطة السادت حسب اسمها الرسمي المكتوب تحت الأرض).
آخر ما كتب في الصحف منسوبا للباز له علاقة أيضا بتلك القضية.. على غير عادته في الإدلاء بتصريحات، كان الباز حريصا هذه المرة أن تصل كلماته بصياغته مباشرة إلى القراء.. نشر مقالا في أخبار اليوم 16 يوليو 2005 عنوانه وخاتمته يحملان نصف الرسالة: "الوصايا العشر.. حتى لا يندم بعد هذا أحد" ثم الخاتمة "ألا هل بينت اللهم فاشهد"، ونصفها الباقي في متنها.. وكانت الوصايا أو الشروط العشر – باختصار - الأولى "أن يكون المرشح ملما إلماما كافيا بتاريخ بلده وتراثه"، الثانية "لديه خبرة كافية باتخاذ القرارات الحاسمة.. ووعي كاف بأثر هذه القرارات علي المصالح العليا للوطن"، والثالثة "لديه القدرة على تشخيص الأوضاع القائمة في الوطن تشخيصا سليما وتحليلها بأسلوب علمي"، والرابعة "أن يكون المرشح قد اشتهر بالقدرة علي الإدارة بأسلوب علمي رشيد"، والخامسة "أن تتوافر للمرشح القدرة علي مخاطبة الجماهير والحصول علي ثقتها، بالصدق والمكاشفة، بعيدا عن الوعود الزائفة والخداع"، والسادسة "أن يكون المرشح معروفا بالصدق والأمانة والنزاهة، والبعد عن الكذب والتضليل والمبالغة"، والسابعة "أن تكون له خبرة معروفة في مجال إدارة الأزمات" والثامنة "أن يكون للمرشح اهتمام بالسياسة الخارجية"، والتاسعة "ألا يكون المرشح معروفا أو مستعدا للانصياع لقوي خارجية" والوصية العاشرة "ألا يكون المرشح قد اشتهر عنه التردد والتذبذب في المواقف"، وأخيرا اختتم الباز بقوله "ألا هل بينت.. اللهم فاشهد!"
كان من الممكن أن يعنون الباز مقاله "بالشروط الواجب توافرها للمرشح إلى الرئاسة" ويسكت، لكن استخدام تعبير "الوصايا العشر" ثم "حتى لا يندم بعد ذلك أحد" ثم التعبير التراثي "ألا هل بينت اللهم فاشهد" يؤكد أن المقال إعلان موقف، أو إبراء ذمة، أو شهادة للتاريخ..
يمكنك أن تستشف من الشروط الواجب توافرها في المرشح – حسب رؤية الباز- أنها لا تنطبق على نجل الرئيس فتعتبر المقال رفضا غير مباشر لفكرة التوريث، وأن تضيف على ذلك خلو المقال من إشارات لمقولات الفكر الجديد وتسليم الراية لجيل الشباب، لتؤكد لنفسك أنه كان يعترض على إعداد جمال للرئاسة، لكن الأكثر وضوحا أنها استكمال علني لموقف قاله في غرف مغلقة.. واعتراض صريح على مؤسسة الرئاسة، في موضوع محدد هو طريقة اختيار الرئيس القادم.. أيا من كان. الرئيس أم ابنه.. أم.........
عندما سئل د.أسامة الباز عن سر اختفائه استعاد بسرعة لغة أبناء مؤسسة الكهنة المصرية عندما يتعرضون لمواقف محرجة، قال "كل شيء في الدنيا تغير.. العالم لم يعد كما كان.. والتصورات الجديدة تحتاج وجوهاً جديدة».
أيمن شرف - صوت الأمة نوفمبر 2009
محمد عبلة.. يوميات مصرية في لوحات
مثقف عنيد وصوفي متعمق في دروب الصوفية ويمارس العلاج بالفن
يقول: حكامنا يريدون أن يكونوا آلهة دون أن ينجزوا شيئا وجميع مراحل الانحدار في الترايخ المصر تأتي عندما يفقد الحاكم هيبته للأرض
لم يكتف برصد ظاهرة الخوف من السلطة لدى المصريين وكان أول متظاهر يخرج إلى شوارع القاهرة عام 1991 ضد العدوان الأمريكي على العراق
متمرد على القهر في لوحاته ويشير في أحد معارضه إلى تغول السلطة وسيطرة الأمن على الحياة العامة
عبارة يرددها دائما.. الأطفال والفنانون وحدهم هم القادرون على إنقاذ العالم
محمد عبلة ليس مجرد فنان تشكيلي يمتلك قطعة أرض وبيتا في جزيرة القرصاية راح يدافع عنها إلى جانب جيرانه من أهالي الجزيرة في مواجهة اعتداء الحكومة على أراضيهم لمصادرتها، بل إن تلك القصة مجرد فصل في رحلته الطويلة دفاعا عن القيم النبيلة.. عن الأسرة المصرية، عن دور الفن في المجتمع، عن إنسانية المصريين، عن الطبقة الوسطى التي تعرضت لضربات شديدة على مدى ربع القرن الماضي، بلوحاته ومعارضه التي تخرج بالفن من جدرانه المتحفية، وعزلته المفروضة عليه فرضا، إلى عيون الناس العاديين، باستخدام لغة فنية بسيطة يدركها الجميع.. اختيارات محمد عبلة الفنية والإنسانية تؤهله لأن يكون أحد شخصيات العام.
مشكلة مصر حاليا كما يراها عبلة هي "اختفاء الطبقة الوسطى من المشهد.. من التأثير.. من التعبير عن نفسها، الأغنياء ليسوا مهتمين بالبناء، والفقراء لا يقدرون عليه، والطبقة الوسطى هي الوحيدة القادرة على البناء، وضربها يعني ضرب الثقافة والمستقبل".
في معرضه "العائلة" الذي مثل بالنسبة لكثيرين في وسط الفن التشكيلي خروجا على المألوف، يلتقط عبلة إحساس تلك الطبقة بنفسها، اعتزازها بذاتها، ترى أفرادها في لوحاته – كما في واقعهم قديما- ينظرون إلى عينيك مباشرة دون انكسار، على خلاف سكان المدن الآن الذين رسمهم عبلة من قبل بلا وجوه، أو ينظرون إلى الأرض. هكذا ببساطة يشخص الفنان محمد عبلة حالة مجتمعه.
هو يذكرنا بتآكل الطبقة الوسطى بجمالها الإنساني وتوحدها وزهوها بنفسها، ويحن إلى عائلته وطفولته، لكنه في نفس الوقت يتمنى أن تنتقل "قيم العائلة - الأسرة" إلى الأجيال المقبلة وكأنه يبحث عن لغة للمستقبل، ويؤكد من خلال شخوصه أن فترة الأربعينات والخمسينات هي أكثر الفترات التي يظهر فيها إحساس المصري بوجوده وهويته.
والعودة إلى القديم والتاريخي والأسطوري عند عبلة لها ما يبررها موضوعيا، فبعد حريق مبنى سفر خانة عام 1997 والذي قضى على 500 عمل فني له أنجزها في عشرين عاما، انتابته حالة من الغربة الشديدة، وتوقف عن الرسم لفترة، كانت صدمته التي لازمه تأثيرها فترة طويلة، فعمل بجنون لإنجاز عدد كبير من الأعمال وعدد كبير من المعارض، بعد أن شعر بأنه "يقف عاريا بلا تاريخ فني".. كان كل ما يشغله أن يحيط نفسه بالدفء الذي تمنحه اللوحات.. وكان قد أنجز قبلها تمثال سيزيف ليوضع في وسط مدينة فالسروده في شمال ألمانيا، وهو تعبير شخصي جدا عن حالته، أن يحاول مرة تلو الأخرى ولا تتوقف مثل سيزيف، الذي يدفع الحجر إلى أعلى الجبل دون كلل.
واختياره للإقامة على جزيرة في وسط النيل لها دلالتها الرمزية، كما يقول عبلة ضاحكا "أحيط نفسي بالماء حتى إذا اشتعل حريق مرة أخرى يكون من السهل إطفاؤه"، وهي استجابة لحلم قديم وبداية لمرحلة جديدة من إنجاوه الفني.. مرحلة من التأمل في التاريخ وفي تاريخه الشخصي، بدأت بمجموعة من الأعمال عن المراكب القديمة مستوحيا رسوم الصخور ومجموعة أعمال القاهرة حيث بدأ استخدامه للصور الفوتوغرافية تتناول القاهرة كمدينة، رسم فيها الناس بخطوط بسيطة وبدون ملامح تقريبا كأنه ميبحثون لأنفسهم عن طريق.
بعد ذلك الحريق اتجه عبلة لقراءة التاريخ وكأنه يبحث لنفسه عن جذور، وذهب إلى واحات مصر في الصحراء الشرقية ليجري أبحاثا فنية ذات طابع تاريخي وإنساني، تلك الدراسة جعلته يدرك ميزات أساسية للمصريين، يدرك أن "ثقافة المصريين شيء قائم بذاته منذ قديم الأزل، يقومون بالبناء والتشييد ولديهم إحساس واضح جدا بالأرض وجميع العناصر التي يتعاملون معها لها علاقة بمكانهم وبيئتهم، ويتسمون بالجرأة والجد في العمل، في كل بيئة يصنعون حضارة مختلفة".
تلك الرحلة في بيئات مصرية قديمة ومتنوعة مازالت تحتفظ بطزاجتها كونت لدى عبلة مفردات وقاموسا فنيا غنيا انتقل بالطبع إلى لوحاته، وكونت أيضا معرفة جيدة بالمصريين وإيمانا عميقا لديه بقدراتهم الكامنة التي جرفتها أحيانا "عوامل التعرية" الثقافية، وأدرك أنهم في كل الظروف يستطيعون أن يصنعوا كيانا ووجودا، وأدرك عبلة أيضا أن تحول مصر إلى بلد طارد لسكانه جعل أبناءها يشعرون بالقلق، وفقدان الإحساس بذاتهم.
قراءة عبلة للتاريخ ميزته كفنان ومثقف، وأعطت للوحاته ومعارضه عمقا أكثر من أبناء جيله من الفنانين، وجعلته لا ينسى أبدا ضرورة أن يكون لها "مضمونا ذهنيا" وليست مجرد تجارب في الشكل والتقنية الفنية، هو يرى أن فكرة الحاكم "المحترم" مفصلية في نهضة مصر أو تراجعها، "فرمسيس الثاني بنى مجده وهو يحتضن شعبه، الاتجاهان سارا في خط واحد، وكان المصريون يعملون لديه ليس لأنهم يخافونه بل لأنهم يحبونه باعتباره "ظل الإله" الحقيقي في الأرض، يشق الترع ويبنى السدود لتحافظ لهم على حياتهم ويحارب الأعداء ليحميهم، وفي نفس الوقت يقيم المعابد لتخليد نفسه.. عندئذ صنع المصريون حضارة لأن فكرة الحاكم كانت مندمجة مع فكرة الوطن، أما اليوم فحكامنا يريدون أن يكونوا آلهة دون أن ينجزوا شيئا.. أن يأخذو كل مميزات الحاكم، ومن الطبيعي ألا يعمل الشعب بذمة وضمير، ومن الطبيعي أن يحدث التفكك عندما لا تكون عينه على البلد.. جميع مراحل الانحدار في الترايخ المصر تأتي عندما يفقد الحاكم هيبته للأرض". وفي البرلس تعلم عبلة أن المصريين عندما يكونوا غير مرتبطين جغرافيا بالعاصمة.. "بالسلطة المركزية غير العادلة" يحدث نوع من الازدهار الاجتماعي، فتلك المنطقة مرت عليها فترات كانت منفصلة تماما عن الدنيا بسبب ارتفاع منسوب المياه، وبعيدة عن "السلطة المركزية" بكل سوءاتها، هناك كانت تبدو ملامح الترابط في المجتمع واضحة.
من خبراته بالأماكن والبشر المقيمين فيها تعلم عبلة أن فكرة الخوف من أن تقول رأيك وأن تكون حرا عطلت كثيرا من الإبداعات، ولم يكتف برصد ظاهرة الخوف من السلطة لدى المصريين، بل مارس التمرد عليها، وكان أول متظاهر يخرج إلى شوارع القاهرة عام 1991 ضد العدوان الأمريكي على العراق، عندما كان الصمت والذهول يخيم على الجميع ولم تخرج تظاهرة واحدة في مصر تعبر عن مشاعر مواطنيها تجاه ما يحدث، فخرج عبلة وابنه وزوجته يحمل لوحة لوحة بسيطة على ظهره يقول ببساطة "لا"، يقول عن ذلك الموقف "كان الناس ينظرون لي باعتباري مجنونا.. منذ زمن طويل لم يشاهدوا مظاهرات.. لكنهم في داخلهم يريدون السير معي.. لم أكن أشعر بالخوف، وإنما كنت أشعر بأنني إن لم أفعل ذلك سأجن.. كنا نتابع أخبار ضرب العراق.. وامتلأنا بشحنة لا بد من تفريغها في فعل إيجابي". التمرد على القهر يمارسه عبلة في لوحاته أيضا، في أحد معارضه الأخيرة يشير يشير بوضوح إلى تغول السلطة وسيطرة الأمن على الحياة العامة، بإشارات ذكية لا تخرج الفن إلى "خطابية زاعقة".
فهو لا يجد عبلة فرقا بين الفن ومواقف الواقع، "الإنسان لابد أن يعبر عن نفسه، وكلما زادت مساحة الحرية ازدهر الفن".. الفن عنده كاليوميات. لا ينفصل عن الحياة، ومن الممكن أن يغير حياته من أجل الفن، عندما أتى إلى جزيرة القرصاية كان يريد تغيير مساره الفني، فغير طريقة حياته، وذهب إلى أوروبا لمعرفة الفن والثقافة الأوروبية فتعلم الألمانية والإنجليزية، ودرس بهما في النمسا وألمانيا والسويد.
هو مثقف عنيد صاحب قضية جاد دؤوب.. صوفي متعمق في دروب الصوفية، درس علم النفس، ومارس العلاج بالفن، وهو أخ أكبر لشباب الفنانين يأخذ بيدهم يشجعهم، ويخوض معاركهم ومعاركه دون أن يتحسب للعواقب أو الخسائر، لا يهتز أو يتوقف أمام الأزمات، منخرط طول الوقت وسط أبناء مجتمعه ومهموم بأفكار زمنه، يصر على أن يمثل الفن رؤية الفنان لزمنه ومعايشاته وواقعه ومجتمعه، لا أن ينفصل عنه ليمثل أفكار ثقافة أخرى أو رؤى الآخرين. هو كما تقول أدبيات السياسة "مثقف عضوي".
لم يتوقف عن العمل من أجل إصلاح المؤسسة الثقافية في مجال الفن التشكيلي، يهزمونه تارة ويقصونه عن الساحة تارة أخرى، لكنه لا يلين، بل يزداد إصرارا على هدفه، ومن بداياته الأولى في أواخر السبعينات كان حريصا على ألا يكون "ربيب" المؤسسة، بل مستقلا عنها قادرا على نقدها ومعارضة "سياستها –التي تبناها بجدارة وزير الثقافة الحالي- في تفكيك وتفريغ الحركة التشكيلية المصرية من محتواها" والدفع بها إلى زوايا بعيدة عن اهتمامات الناس وقضايا الوطن، إلى عزل الفنان في قوالب فنية عبثية مستوردة، إلى تشويه هويته المحلية والمعرفية.
وهو يرى أن الحركة الفنية المصرية شهدت إجهاضا للشباب، وعندما تضرب المؤسسة الثقافية الشباب وتعلمهم الخضوع والخنوع سيكون المستقبل مليئا بالمنافقين، "للأسف تمتلك المؤسسة 80 بالمئة من أوراق اللعبة أي أنها تسيطر على الساحة، وقاعات العرض الحكومية خسارة مادية نتيجة دفع رواتب ذلك الجيش من الموظفين دون مردود حقيقي، ومن الأفضل تحويلها إلى قاعات خاصة، ومن مظاهر فساد تلك المؤسسة أيضا إفساد النقاد وشرائهم بتحويلهم إلى رسامين واقتناء لوحاتهم، لتكون "حسنة" مقابل كتابتهم عن الوزير وإنجازاته وإبداعاته العظيمة، وتوقفهم عن انتقاد سياساته"، وقد دفع عبلة ثمن مواقفه استبعادا لسنوات من العرض
في قاعات الدولة.
الأطفال والفنانون وحدهم هم القادرون على إنقاذ العالم، عبارة شكلت وجدانه منذ صغره عندما دخل كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية على عكس رغبة والده الذي كان يريده أن يدخل الكلية الحربية عندما كانت صور ضباط ثورة يوليو مازالت منتشرة في كل مكان، وفي الإسكندرية بدأ عبلة مواجهة الحياة منفردا، وهو القرار الذي لم يندم عليه أبدا، كانت الإسكندرية في بداية السبعينيات مازالت مدينة تحمل بقايا طابعها "الكوزموبوليتاني" المتعدد الثقافات، بقايا الجاليات الأجنبية بكنائسها ونواديها وأشعار كفافي لا تزال تتردد في شوارعها القديمة، كانت أيام الدراسة بالنسبة له رحلة مع السعادة، شعور غامر بالنشوة لخمس سنوات رغم مصاعب الحياة وقلة الموارد، وأنهى دراسته بمشروع التخرج الذي أعده عن رحلة عمال المراكب في النيل، ورغم حبه للبحر وللإسكندرية إلا أن موضوع النيل فرض نفسه بقوة من خلال استدعائه لذكريات الطفولة حينما كان يشاهد المراكبية يأتون من جنوب مصر على مراكبهم بأجسادهم النحيلة يتراقصون عن بعد في حركة دائبة أثرت خياله البصري، بالإضافة إلى رحلة الأقصر التي أمضى فيها شهرين على مقربة من مقابر البر الغربي برسومها الفرعونية التلخيصية التي تركت أثرها في اعماله حتى الآن، وظل النيل والناس موضوعات تلازمه على مدى مشاوره الفني.
ثم أنهى دراسته وسافر إلى أسبانيا، حيث بدأت صدمته الثقافية وراح يبحث عن إجابة على سؤاله حول علاقة الشرق بالغرب ودور الفن ووظيفته، تساؤلات حول الإجابة عنها بتجاربه، الدهشة الأولى أمام عالم الفن، وارتياد المتاحف والتعرف على أعمال كبار الفنانيين الغربيين، وعن علاقته كمصري بكل ذلك وبماذا سيعود إلى مصر.
أتيحت له فرصة العرض الأولى في ألمانيا بجاليري هوهمان وكان النجاح الذي حققه فرصة لعروض أخرى ومكنه من القيام برحلات إلى دول أخرى في أوروبا الشرقية عندئذ، ورغم النجاحات كان يشعر دائما بأنه ينقصه الكثير لكي يتعلمه، وأن يفهم المجتمع الغربي، كيف بنى نفسه وحقق طفرات في مجالات كثيرة.
الطابع الرمزي غلب على أعماله المبكرة فكانت شخوصه ملائكة وأطفال وطيور وأشخاص وحيدين في فراغ اللوحة، وأثر زواجه وإحساسه بالاستقرار مع عودته إلى مصر في شكل ومضمون أعماله، فبدأت تمتلئ بالعناصر مرة أخرى، وبدأت "مرحلة الزحام" التي رسمها كثيرا، وهي تعبير عن الرغبة في الالتحام بالناس في مصر والرجوع إلى حضن الوطن، وظلت تلك المرحلة تعويذة يعود إليها كلما أحس بالوحدة أو اليأس.
عاد إلى مصر ليلتحم بالأحداث السياسية والاجتماعية.. حرب الخليج، تغيير المجتمع وفساد الذوق، لينجز العديد من المعارض التي تعبر عن رؤيته النقدية لتحولات المجتمع، مثل معارض "السلم والثعبان" و"حفريات المستقبل" و"قاع النيل" وشارك مع مجموعة من الفناين خارج المرسم في "مشروع كوم غراب"، عندما قرر هو ومجموعة من الفنانيين أن يجملوا حوائط قرية بكاملها.
الفنان محمد عبلة مشغول بالصورة الفوتوغرافية، منذ بداياته كان يستخدمها كجزء مكمل لبناء اللوحة مع قصاصات الجرائد، وما تحويه أعماله من إسقاطات سياسية واجتماعية واضحة هي شكل من أشكال الرسالة التي يصر على توصيلها بطريقة غير مباشرة.
في سنوات شبابه كتب عنه الناقد الراحل فاروق بسيوني "مع بدايات السبعينات بدأ الجيل الرابع من الفنانين فى الظهور، مصاباً فى معظمه بما يشبه الإعياء مشتت الرؤى، متكاسلا إلى حد كبير عن البحث الجاد، مقطوع الصلة مع بعضه أو مع ما قبله تقريبا، اللهم إلا قلة قليلة جداً منه، لولاها لما كان هناك جيل رابع ولا يحزنون ولعل فناناً مثل (محمد عبلة) واحدا من تلك القلة التى تبحث عن صياغة ورؤية معا تتيح لها أن تبلور تجربة فنية تحقق التواصل والاستمرار مع ما سبق.
وفي تجربته الفنية نشعر بفارق كبير بين بدايتها، ونتائجها ــ برغم قصر مدتها الزمنية ــ إلا أننا نلمح إشارات منبئة وصادقة تبشر بامتلاك أسلوب خاص، فبعد ما هضم معطيات التجربة (التصويرية) عند (حامد ندا) نجده يمر على نصاعة اللون عند (فرانز مارك) لينتقل إلى البحث فيما أرساه (بول كلى) من تجارب فى علاقة (الشكل باللون) ليتحول بعد ذلك الى البحث فى علاقة الشكل عن طريق المصادفة بالحركة الانتشارية للون واللمسة كما يفعل فنانو (التاتشيزم) وعلى رأسهم (جاكسون بولوك).
أى أنه قد تحول فى رحلة بحث من التشخيص للتجريد منشغلاً أثناءها بتحقيق توازن بين (التعبير والتشكيل) سواء كان ذلك التعبير عن طريق الشكل أو عن طريق اللون بدرجات إشعاعه وتأثيره وسيطرته أو حياديته من ناحية، سواء كان التشكيل قائماً على الرسم المرتبط بملامح الطبيعة، أو عن طريق التجريد الخاص بملامح تلك الطبيعة من ناحية أخرى، وتلك الجدية فى البحث والوعى بلغة الشكل، اللذان يأتيان بعد اجتياز التدريب الأكاديمى الجيد هى ما تجلعنا نشعر إزاء تجاربه المتعددة بمولد فنان جديد".
محمد عبلة ليس مجرد فنان تشكيلي هو الترجمة الواقعية لشخصية "محمد أبوسويلم" في فيلم الأرض ليوسف شاهين.. أصيل كالأرض التي نبت منها، وإنساني إلى أبعد الحدود، وزعيم بالفطرة.. هو ذلك الفرز الطيب الذي مازالت تجود به مصر أحيانا رغم كل ما يعتورها من تشويه لشخصيتها التاريخية.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور يناير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
الإساءة للرسول وجمال مبارك
هل تتذكر الصور المأساوية لمقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة.. ذلك المشهد الذي فجر ردود أفعال عربية وعالمية واسعة؟ مظاهرات وتعاطف جارف مع الشعب الفلسطيني وإدانات وشجب لمجازر المحتل الإسرائيلي، لكن تكرار مشاهد القتل المأساوية بشكل شبه يومي عبر القصف الصاروخي من الطائرات لمدنيين عزل لم يعد يفجر نفس ردود الأفعال، وأصبح الخبر الملفت هو الذي يحمل محتوى نوعيا جديدا في طبيعة العنف وأسلوب القتل.
ينطبق الحال أيضا على العراق.. اعتاد الناس على أخبار الانفجارات والعثور على مجموعات من الجثث مقيدة اليدين مقتولة برصاص في الرأس.. الدهشة الأولى انتهت وبردت المشاعر وهدأت ردود الأفعال.. نفس الشيء مع النشر الأول للرسوم المسيئة للرسول ثم إعادة النشر مجددا؛ عاصفة من المظاهرات والشجب وتنظيم حملات لمقاطعة السلع الدنماركية ومطالبة بسحب السفراء وطرد البعثات الدبلوماسية للدنمارك، ثم ردود أفعال لامبالية في المرة الثانية.
هذا هو الميكانيزم النفسي للشعوب، وليس العربية فقط كما يحلو للبعض أن يقول، بل لكل الشعوب تقريبا؛ المفاجأة والدهشة تصنع رد فعل قويا، والاعتياد والتكرار يجعل رد الفعل باردا أو حتى محبطا يائسا، وهذا ما يدركه جيدا كثير من السياسيين وأجهزة المخابرات التي تستعين النفس كثيرا وتستفيد من دراساتهم لسلوكيات المجموعات البشرية تجاه الأحداث المختلفة والتدرج في جرعات المصائب.
نفس التكنيك تستخدمه إسرائيل والدنمارك والاحتلال الأمريكي في العراق، وحتى النظام المصري.. خذ مثلا فكرة تصعيد جمال مبارك في عالم السياسة.. الفرق بين الحالات الأولى والحالة الأخيرة - حالة جمال- هو أن الأولى تبدأ بالصدمة ثم اللعب على "الاعتياد"، أما الثانية فتعتمد على تحقيق الهدف عبر جرعات والتدرج في التبرير، والتراجع النسبي في فكرة "نفي الانطباع المتولد لدى الناس"، ولك أن تتابع "صيغ النفي" على لسان الرئيس ولسان جمال.. في البداية نفي مطلق لفكرة التوريث، وعبارات من نوع "لا أفكر ولا أنوي ولا أطمح" و"مصر ليست سوريا" ثم بعدها "ابني بيساعدني مثل بنت شيراك التي تساعد أباها"، ومؤخرا وفي جلسة ضيقة في الحزب الوطني يقول الرئيس "لو الشعب عايزه ينتخبه"، وهكذا يبتلع الجمهور أقراص المهدئات واحدا تلو الآخر، ولا مانع من أن يخرج "آحاد" في صحف حكومية سيئة السمعة يهاجمون المعارضة التي تريد أن تمنع "مواطنا" هو جمال مبارك "من حقه الطبيعي كمواطن" في الترشح لمنصب الرئاسة!
هناك بالطبع فروق بين قتل الأطفال والمدنيين والإساءة للرسول وتصعيد جمال، لكنها جميعا "مصائب" تريد إسرائيل والدنمارك والنظام المصري "تعويد" الناس عليها.. والميكانيزمات واحدة.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
وهو إيه في حياتنا حلو؟
وصلتني الرسالة التالية موقعة باسم رحاب صالح من كفر الشيخ- بلطيم، تعليقا على مقال "سارق الفرح"، الذي كنت أتحدث فيه عن العلاقة بين الموت والحياة "في المطلق".. تقول الرسالة: "بص حواليك الحياة صعبة؟ يمكن انت مش حاسس بيها عشان انت في مكان تاني؟ لكن لو كنت زينا ومعانا في نفس الدنيا دي كنت هتقول الموت أهون وأحسن من الحياة؟ لأن الفلوس بقت بتتحكم فينا وهما بقوا بيتحكموا فينا وكل حاجة صعبة وليها تمن وإنت الخسران كمان؟ لا عارفين نتعلم ولا عارفين نشتغل ولا ناكل ولا نشرب ولا عارفين نعيش خالص في بلدنا.. ولما نيجي نقول يا جواز بيكون حاجة تانية خالص.. وكمان بيلومونا علي إننا كفتيات بنتجوز اللي أكبر مننا عشان غني؟ طيب مهو من اللي شايفينه يا ناس.. ولما نقول يا هجرة تقولوا معندناش انتماء وطني وطماعيين قوي؟ طيب مهو لو لقينا هنا مكناش روحنا هناك؟ ولو قلنا يا حب؟ مكتوب علينا الحزن ومش ممكن نتهنى بيه في ظل الحياة دي! هنعيش ازاي بالحب ومفيش شقة ولو لقينا الشقة هنعيش ازاي بالحب ومفيش شغل والا هنعيش بالحب وناكل ونشرب وندفع ايجار سكن وتليفون وميه وكهربا بالحب؟
احيانا بقول لنفسي والله الموت احسن.. بجد الموت أحسن؟ انا مش نكدية بالعكس أنا بحب الحياة.. بس؟ بس؟ مشكلتنا في الحياة أكبر من اننا نعرف نعيشها زي ما إحنا عايزين أو حتي نقدر نحقق حلم واحد بنحلم بيه؟ تخيل أنا حاسة إني عمري ما هحقق حلم لي ابدا.
انا بكتب قصص وكمان مسلسل سيت كوم وكان نفسي حد يساعدني عشان أوصل.. بس للأسف الإيميل اللي انا بعت ليه مردش عليا، لا كده ولا كده؟ اتنرفزت واكتأبت وقطعت الورق.. بس رجعت تاني أكتبه، وقلت لنفسي خليني أحاول تاني؟ يمكن! وأهو إحنا عايشين ومش عايشين لغاية ما نحقق حلم جايز يكون مستحيل بس أهو.. بنحاول".
انتهت الرسالة.. كنت أتحدث في العموم، فإذا برحاب تحدد الأمور أكثر، ولا أعرف إن كانت محقة تماما أم لا لكن دواعي الإحباط واليأس في حياة "الشباب" حاليا كثيرة، ولا نصيحة عندي غير ما قالته هي تقريبا، علينا أن نصر على الحياة، وأن نرفض أن تتسرب إلينا الرغبة في الموت مبكرا، صحيح أن فرص النجاح والتحقق "للموهوبين" محدودة، لكن لا شيء يدوم على حاله.. والرغبة في الحياة تنتصر دائما في سن الشباب، فلا داعي "للسوداوية المبكرة".. والصراع هو سنة الحياة.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
القمح المستحيل
طوابير "العيش" أصبحت طقسا يوميا في حياة كثيرين في قرى مصر ومدنها، والسبب ارتفاع أسعار القمح عالميا، مما اضطر هيئة السلع التموينية الجهة الوحيدة المنوط بها في مصر شراء احتياجاتها الأساسية من الخارج إلى تنويع مصادر شراء القمح، من روسيا إلى سوريا وأخيرا تسعى لشرائه من إيران، وليس من المنتظر في المدى القريب انفراج هذه الغمة، فتقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر حديثا عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام يتوقع عدم انخفاض أسعار القمح في الأسواق العالمية خلال العام الزراعي 2007/2008 وأن فاتورة استيراد القمح ستواصل الزيادة، لتزيد الطوابير طولا، وتشتد المعارك اليومية سخونة.
غرفة الحبوب الأمريكية أصدرت في أكتوبر 2007 بيانا عن أكثر عشرة دول في العالم استيرادا للقمح في موسم 2006/2007 وتصدرت مصر القائمة الدول بإجمالي 7 ملايين طن، وتصدرت أيضا قائمة الدول الأكثر استيرادا للقمح الأمريكي في الفترة من يوليو 2007 إلى منتصف أكتوبر من العام نفسه، برقم قياسي هو 7 .2 مليون طن مقارنة بـ 9 .0 مليون طن في نفس الفترة من العام السابق وبزيادة 300%، والأرقام مرشحة للزيادة في العام الحالي.
فهل فكر إخواننا في الحزب الحاكم "المهمومين" حاليا بالاستعداد لانتخابات المحليات، وسيناريو التوريث في حل غير الاستيراد من أمريكا أو سوريا وإيران وربما السعودية التي حققت كل منها اكتفاء ذاتيا من القمح؟.. لا أظن أنهم في حاجة للتفكير، فالحل موجود يطرحه تقرير مركز الأهرام نفسه، ويطرحه مئات من المتخصصين في مجال الزراعة والاقتصاد منذ سنوات: زيادة المساحة المزروعة بالقمح إلى 4 ملايين فدان ووضع أسعار مجزية لشراء القمح من الفلاحين تشجعهم على زراعته، التقرير يؤكد أيضا على "أهمية استغلال الأراضي الزراعية الزائدة على احتياجات السودان والمعروضة بالفعل للاستثمار وتبلغ مساحتها 20 مليون فدان من إجمالي 32 مليون فدان جاهزة للزراعة في السودان، وأكثر من ضعفها من الأراضي القابلة للاستصلاح والزراعة، وهذه المساحات تحتاج إلى الخبرة العلمية والتقنية والعمالة من مصر ومعها الاستثمارات المالية من دول الخليج وهي تكفي لسد جانب كبير من الفجوة الغذائية في العالم العربي وتحقيق الاكتفاء الذاتي العربي بالكامل من الذرة والقمح".
فهل نرجو مستحيلا لو أن وزراء الزراعة والاستثمار في مصر والسودان ودول الخليج عملوا في مواطنيهم معروفا، واجتمعوا بانتظام أو استثنائيا واتفقوا على شئ واحد هو توفير اكتفاء ذاتي من الخبز، على طريقة وزراء الداخلية الذين لا يغيبون عن اجتماع عربي واحد لزوم "أمن الدولة" العربية، ووزراء الإعلام الذين يتفقون فقط على "تجريد" المواطن من حريته الإعلامية عبر الفضائيات لحماية "الأنظمة والرموز" من الانتقاد.. الماضي يؤكد أننا نرجو مستحيلا..
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
الشعراء عندما يؤرخون
في كتاب (رحلتي.. الأوراق الخاصة جدا) الذي يسجل فيه "الشاعر" فاروق جويدة آراء خاصة وصريحة للملحن والمطرب الكبير الراحل محمد عبد الوهاب، يقول عبد الوهاب إن الرئيس الراحل عبد الناصر كان "يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول ويعلم أنه يخدع الجماهير ومع ذلك تصدقه الجماهير بحماس شديد، وكان (خليفته) أنور السادات يخطب في الجماهير وهو مؤمن بما يقول ولا يكذب ولا يخدع ومع ذلك لا تصدقه وتقول عنه إنه ممثل، وكذاب.. سبحان الله"، ويقول عبد الوهاب أيضا أن "الاشتراكية أفسدت الفن "فالأغلبية والجماهيرية لا تدفع فنا إلى الرقي، والقرآن الكريم دمغ الأكثرية فما من آية تشير إلى الأغلبية إلا وكان الناس لا يفقهون، ولا يبصرون، ولا يعلمون.. أما الملوك والأمراء والصفوة فكانوا يتسمون بحسن الاستماع إلى الفن الرفيع".
ولا يقول لك عبد الوهاب ولا محرر الكتاب كيف قاس المطرب الراحل درجة الصدق والكذب في الحالتين، ولا يفسر "سذاجة المصريين في التعامل مع ما يقوله عبد الناصر ولماذا لم يكونوا بنفس الدرجة من السذاجة مع ما يقوله السادات، اللهم إذا كانت عبارة "سبحان الله" التعجبية الغامضة هي تفسيره الوحيد، ومن الطبيعي أن يكون هذا رأي عبد الوهاب الذي منحه السادات لقب "الدكتور اللواء"، لأول مرة في التاريخ تقريبا يمنح فيها رئيس ملحنا لقب لواء ودكتور في نفس الوقت، وهذا ليس غريبا عليه، فقد منحه الناس لقبا يسجل رأيهم فيه وهو "مطرب الملوك والأمراء".
أما عن أن "الاشتراكية التي أفسدت الفن.. والقرآن الذي دمغ الأكثرية" فكلام مرسل لا علاقة له بالواقع، فما يقصده عبد الوهاب "بالاشتراكية" في مصر فلم يكن كذلك، وإنما حالة من استنهاض الروح الوطنية وإتاحة الفرصة للطبقة الوسطى لكي تعبر عن نفسها، فازدهر الفن في مصر الستينات، وقراءة القرآن كانت المعلم الأول للرعيل الأول من المطربين في فنون التعبير والأداء الصوتي وتمثل المعاني والإحساس بموسيقى الكلمات.
لكن غير الطبيعي والغريب في الموضوع كله أن نبحث عن تقييم للتاريخ في أقوال مرسلة لشخص غير متخصص، لمجرد أنه مشهور، مثلما فعل جويدة، ذلك الشاعر العابر في تاريخ الشعر، والذي لم يحتف به سوى محبو شعر نزار قباني، باعتباره نسخة مقلدة منه، وهو أيضا لم يكن في يوم من الأيام كاتبا أو باحثا سياسيا ينقب في أوراق التاريخ، ليقدم للقارئ أوراق اعتماده محللا أو باحثا.
الأرجح أن كلمات عبد الوهاب لاقت هوى جويدة، الذي دخل أروقة الصحافة في جريدة الأهرام من باب قسم "المحاسبة"، بعد أن أبدت سيدة مصر الأولى السابقة جيهان السادات إعجابها بشعره، فرشحته للصفحة الثقافية بها وراح يرد الجميل بعد ذلك، ومازال ممتنا حتى الآن على ما يبدو.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
mal3onaboeldonya@hotmail.com
سارق الفرح
يتسلل بهدوء شديد بين ثنايا روحك، فلا تعرفه، يقولون إنه يولد معك في نفس لحظة الميلاد، يظل حبيسا في مكان ما تحاصره رغبتك في الحياة وحبك لها، وينتظر بصبر ودأب منقطع النظير، فهو واثق تماما أنه سينتصر في النهاية، يكبر شيئا فشيئا دون أن تنتبه.
الشعر الأبيض يتسلل إلى رأسك شعرة شعرة، فلا تلاحظ الفرق بين يوم وآخر، ووزنك يزداد زيادة طفيفة شيئا فشيئا لا تشعر بها إلا بعد فترة طويلة، وبشرة وجهك تقل نضارتها، تتسرب إليها خطوط الزمن، الأمراض البسيطة زمان تصبح مزعجة، النزوع إلى المغامرة يقل، الإحساس بالدهشة يتراجع، الحكمة تقتلها، الخبرة تتجاوز الأحداث، تستطيع توقعها بسهولة، فتاريخك الشخصي أصبح مليئا بها، يصبح الماضي أرشيفا كبيرا، لا يعود هناك جديد، تصبح الأحداث الحالية شريطا معادا، رأيته من قبل، وتزيد الإحالة إلى الماضي، وتزيد الرغبة في تذكره، فقد كان لأحداثه طعم آخر، طعم البهجة.
لا أحد يعرف على وجه التحديد متى يبدأ الإنسان رحلة الموت، لكن هناك من يقولون إنك تشعر به في لاوعيك، إحساسك الداخلي بالرغبة في الحياة يتراجع، والاكتفاء منها يغلب الطمع في المزيد.
يتحول صراعك الداخلي مع ذلك الكامن في مكان ما بجوار قلبك أو في خلايا عقلك، إلى صراع خارجي، فتسعى جاهدا لأن تعطي امتدادك على الأرض ما تبقى فيك من حياة، تنقل أرض المعركة إلى كائنات أخرى من صلبك، فتكافح من أجل أن يحيا أبناؤك حياة أفضل، تعطيهم كل ما لديك، وتتخلى عن كل طموحاتك ونزواتك.
اصبحت تدرك –بلاوعيك- أنك لن تكسب المعركة الداخلية، وأن النهاية التي كنت طول الوقت تتجنب التفكير فيها، وتشطبها من حساباتك، بل وتفترض –متيقنا- كل صباح أنها غير ممكنة، وأن صباحا آخر سيأتي.. أصبحت وشيكة.. تلك الحقيقة التي كنت تحولها كل ليلة كلما خلدت إلى النوم إلى وهم، تتجلى حاضرة إلى وعيك، ولا تستطيع الفكاك منها.
لحظات الاكتئاب أو التشاؤم الشديد التي تمر بها في مراحل مختلفة من عمرك قد تشعرك أن الحياة بلا معنى، أو تنمي داخلك عزوفا عنها، فتخصم من رصيدك في المعركة الداخلية مع الموت، لكنها لا تستمر طويلا، فالعداد البيولوجي يواصل عمله، ويستمر في مساره الطبيعي حتى تحين اللحظة الحاسمة، التي ينقض فيها سارق الفرح على ضحية مستسلمة لنهايتها راضية بمصيرها.
وداعا مجدى مهنا.. صديق كل الصحفيين ووداعا رجاء النقاش عاشق الحياة.. وكلنا عابرون في نفس الطريق العابر.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
مصر وإيران
عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران لا يعني إمكانية التحالف الاسترتيجي بينهما كما يتمنى البعض، وإنما يعني علاجا للمواقف التي أدت إلى القطيعة بين الدولتين منذ عام 1979، واستعدادا للتعاون في ملفات "متواضعة" بعينها، مثل استيراد القمح الإيراني أو تصدير بعض المنتجات المصرية لإيران أو إنشاء مصنع مشترك للسيارات في مدينة السادس من أكتوبر، ومصنعين للسكر في إيران، وتفعيل مجلس رجال أعمال أو حتى ترتيب قدوم وفود سياحية إيرانية للمزارات الشيعية في مصر رغم مخاوف الحكومة المصرية من تداعيات ذلك على العلاقات بين شيعة الداخل وشيعة إيران.
والخلافات الشكلية حول "جدارية" تحمل اسم قاتل السادات "خالد الإسلامبولي" لا تمثل في الغالب عقبة أمام عودة العلاقات، فمنذ سنوات طلبت وزارة الخارجية الإيرانية من مجلس مدينة طهران تغيير اسم شارع "الاسلامبولي", مجاملة للرئيس مبارك على مبادرته بزيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي بمقر إقامته علي هامش مؤتمر جنيف, وعلى الفور سارع مجلس مدينة طهران وأغلبه من اليمين المحافظ بالموافقة واختيار اسم الانتفاضة بدلا منه, وهو اختيار لا يخلو من إشارة واضحة المعاني.
أما الخلافات حول مواقف سياسية كبيرة مثل العلاقة مع إسرائيل وأمريكا فتظل معلقة في الهواء، لا يمكن أن تحسم بين يوم وليلة، لأن أي تعديل فيها يترتب عليه أشياء كثيرة، لا يقوى عليها النظامان في مصر وإيران حاليا، فلا إيران مستعدة للاعتراف بإسرائيل ولا مصر مستعدة للتراجع عن اتفاقية السلام معها ولا حتى قادرة على تعديل أحد بنودها، ولا إيران مستعدة "للتحالف مع أمريكا" وهو أمر غير وارد على الإطلاق على الأقل في ظل نظامها الحالي، ولا مصر مستعدة للخروج من عباءة أمريكا، بل إن تقاربها النسبي والمحدود مع إيران حاليا تحدوه رغبة أميركية في أن تلعب مصر دوراً في إقناع طهران بالعمل على مساعدة القوات الأمريكية في العراق، والتوقف عن تخصيب اليورانيوم، أي أن قرارها بإعادة العلاقات مع إيران ليس قرارا مصريا صرفا، فيما تبقى ملفات مثل دور إيران في أمن الخليج وعلاقتها بحزب الله في لبنان ودعمها للأصوليين الإسلاميين موضع نقاش بين الطرفين.
لا داعي إذن لأن يتفاءل أنصار "علاقة استرتيجية بين مصر وإيران" إذا جاء مسئول إيراني إلى القاهرة أو استضافت القاهرة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أو سافر وزير خارجية مصر أو حتى رئيسها إلى طهران.. العلاقة الاستراتيجية بين البلدين تصنعها عقلية أخرى غير موجودة حاليا في الإدارة السياسية المصرية، عقلية تدرك أن تحالفها مع أمريكا لا يحقق مصالحها بل يخصم منها وأن إدارة علاقة مع إسرائيل دون امتلاك أوراق ضغط وعناصر قوة كفيل بتلقي إهانات منها بشكل دوري، وقضم دورها في المنطقة شيئا فشيئا حتى يصل إلى الحضيض.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
مبالغات النقاب
يبدو أن "أفكار" مجتمعنا أصبحت في حالة يرثى لها، قضايا بسيطة يمكن حسمها بقليل من الجهد تستغرق زمنا في النقاش وشدا وجذبا عنيفا، ومزايدات وضحالة في الطرح، وتفتيشا في النوايا، وتفسيرات لخلفيات تآمرية محتملة؛ 9630 ممرضة يرتدين النقاب من بين 90 ألف ممرضة في المستشفيات الحكومية، سيخضعن قريبا (أول مارس) لقرار ارتداء زي موحد يظهر الوجوه والأيدي أثناء العمل.
الحكومة من جانبها تعتبر الظاهرة "سياسية" ينبغي مقاومتها والحد منها، أي أنها كانت "نايمة في العسل" عشرات السنوات حتى انتشرت ظاهرة الحجاب ثم النقاب منذ منتصف السبعينات وإلى الآن، والإسلاميون من جانبهم يعتبرون القرار اعتداء على "الحرية الشخصية" وتجاوزا ضد الإسلام، ويتندرون بعدم تدخل الحكومة لمنع النساء المتبرجات في كل مكان، ويشنون حملة في البرلمان ضد حظر النقاب حتى لا يمتد المنع إلى مجالات أخرى.
عضو المجلس حمدي حسن يستشهد على عدم الخطأ في ارتداء النقاب داخل المستشفيات بأن "الأطباء أنفسهم يضعون أقنعة على وجوههم في غرفة العمليات"، وينسى أن الغرض من القناع عندئذ وقائي لا أكثر، وأن المريض المخدر ليس في حاجة لأن يرى وجه طبيبه للتفاهم أو التواصل معه كما هو الحال فيما يخص الممرض أو الممرضة، ود.حمدي السيد نقيب الأطباء حذر من أن منع النقاب مخالف للدستور، لأنه اعتداء على الحرية الشخصية، ونقابة الأطباء التي يمثل التيار الإسلامي غالبية أعضاء مجلسها حذرت وزيرالصحة من "طرد" الممرضات اللاتي لا يلتزمن بالقرار الجديد، ونسي النقيب ومجلس النقابة أن "الحرية الشخصية" سواء في السفور أو التبرج لها حدود.
قبل أعوام اشتكى طفلي وكان في رياض الأطفال من أن مدرسة "التربية الدينية" تخيفه، ذهبت إلى المدرسة فعلمت أنها منقبة، وتصر على ارتداء النقاب في الفصل أمام أطفال في عمر الخامسة لأن الشبابيك زجاجية ويمكن أن يرى رجل مار في الطرقة أو في الشارع وجهها! أي أنها فضلت أن تمارس حريتها الشخصية في غير مكانها وعلى حساب عملها ووظيفتها، فتعليم الأطفال مخارج الألفاظ ومن بينها ألفاظ "القرآن" الذي تعلمه للأولاد يقتضي أن تكشف وجهها، والتواصل معهم نفسيا يقتضي ذلك أيضا، وإدارة المدرسة لأنها "ذات هوى إسلامي" تبنت ما يطرحه نقيب الأطباء والإسلاميون اليوم فيما يتعلق بالممرضات.. الموضوع أبسط من كل الجدل المثار حوله.. 10 بالمئة من الممرضات يمكن إحالتهن للعمل الإداري، أو يغيرن وظيفتهن مادمن لا يستطعن أداءها كما ينبغي، و"الحكومة" لكي تنتصر في "حربها مع النقاب" عليها أن تغير من أدواتها.. لكنها للأسف لن تستطيع فهي أكثر تخلفا من أن تكتشف الطريق الأسلم لمنع "التشدد الفكري" سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي في المجتمع.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
السوسة في الجدر
"النفخ في قربة مقطوعة" مثل شعبي و"الضرب في الميت حرام" مثل آخر، لكل منهما معناه المعروف المختلف عن الآخر، ولكنهما في حالة الصحف التي أنشئت خصيصا لتلميع صورة سياسات الحزب "الوطني" –لا مؤاخذة- الحاكم يتساويان، فما تفعله تلك الصحف نفخ وضرب في وقت واحد.
بعض جهابذة الحزب لاحظوا أن الصحف المستقلة والمعارضة سيطرت على الساحة الصحفية رغم ضعف إمكانياتها، وأصبحت مسموعة الصوت لدى القراء، وزاد توزيعها كثيرا عن الصحف الحكومية التي لا يعرف أحد أعداد توزيعها بالضبط، فهي الناشر والموزع في نفس الوقت، والأهم أنها أصبحت بلا مصداقية، لأنها مازالت تسير على نفس نهجها القديم.. تبحث عن رضا المسئولين ولا تبحث عن اهتمامات القارئ، هذا بخلاف أن المزاج العام في مصر لم يعد يخيل عليه النفاق الدائم وأصبح يتعامل بقرف مع فيض أخبار المسئولين التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هؤلاء الجهابذة تفتق ذهنهم عن فكرة أقل ما توصف به أنها "عبيطة".. أن يصدروا صحفا جديدة يتولى إدارتها وجوه "جديدة" على دولاب الحكومة، كان لها أحيانا بعض المواقف "نصف المعارضة"، ولها رصيد معقول من "المهنية"، لتقدم طبخة "جديدة" لعلها "تخيل" على القراء، وتم نسف حمام "مايو" القديم، واستبداله بحمام آخر، واختلقت من مؤسسة "روزاليوسف" ذات التاريخ "اليساري" النقدي المعارض منذ أيام العظيمة فاطمة اليوسف مطبوعة أخرى، وكان الهدف التالي من مشروع "الصحف الجديدة الملتبسة" هو "الغلوشة" على الصحف المعارضة والمستقلة بسحب شريحة من قرائها ولا مانع أيضا من تشويهها والدخول في معارك رخيصة معها.
وكانت النتيجة هي تلك الجملة التي كنا نسمعها أحيانا في الراديو –قبل مجيئ الإنترنت- عند إذاعة نتائج الثانوية العامة، "مدرسة الحزب الوطني.. لم ينجح أحد"، أرقام التوزيع في الحضيض، المصداقية غير موجودة، الصدى في الوسط الصحفي متواضع، وصورة الحزب كما هي من سيء إلى أسوأ في أذهان الناس، وصحف المعارضة واصلت ارتفاع أسهمها لدى القارئ.
المشكلة إذن ليست في "الحمام القديم" والحل ليس في نسف الحمام واستبداله بآخر جديد، وإنما المشكلة في البيت كله.. إنشاء صحف واستخدام أبواق إعلامية وتوظيف إعلاميين ناجحين في برامج لتلميع "الحكومة والحزب" لا يمكن أن يغير صورتهما في أذهان الناس، وإنما تغيير سياسة الحكومة والحزب، وربما تغيير الحزب نفسه هو مايمكن أن يقنع أحدا بأن هناك أمل كما يرى كثيرون، وإن كنت شخصيا لا أرى في ذلك حلا.. "فالسوسة -كما يقول الصديق حمدي عبد الرحيم- في الجدر"، لا بد من اقتلاعه أولا.
أرابيسك - أيمن شرف - الدستور فبراير 2008
روبرت فيسك يكتب عن أوهام بوش وأحلام العرب
الملك عبد الله منح بوش قلادة الملك عبد العزيز التي تمنح في السعودية لكبار قادة وزعماء العالم) لكن لم يكشف أحد عن سبب هذا "التكريم النفاقي" وربما يكون إمداد المملكة بأسلحة تستعملها ضد أعداء النظام السعودي الخياليين.
ـ بوش يعود إلى "سياسة التخويف" التي يتبعها المسئولون الأمريكان بانتظام في زياراتهم إلى قادة الخليج
ـ بوش تخلى عن دعوة الديموقراطية وعاد إلى مفهوم "الشرق الأوسط القديم"، حيث يعمل بنشاط رجال الأمن السريين، وتعمل غرف التعذيب - وحيث يكون سماع أنين السجناء مفيدا – تحت إمرة رؤساء وملوك دكتاتوريين "معتدلين"،. فمن ياترى من الطغاة العرب سيعترض على ذلك؟
بينما تنفجر قنبلة في بيروت وتقتل إسرائيل 19 فلسطينيا في هجمات على غزة، يأخذ بوش مهمته لسلام الشرق الأوسط إلى السعودية (ويوقع صفقة أسلحة قيمتها 20 مليار دولار مع نظام قمعي)
خلف ستائر مخملية من الحرير - وفي غرفة نوم جدرانها مغطاة أيضا بالحرير- في قصر الملك عبد الله السعودي نفسه، استيقظ الرئيس جورج بوش هذا الصباح لمواجهة الشرق الأوسط الذي لا يتحمل أي علاقة بسياسات إدارته ولا التحذير الذي يكرره باستمرار على مسامع الملوك والأمراء والشلة الحاكمة في الخليج وهو أن: إيران وليست إسرائيل هي عدوهم.
جلس الرئيس جلسات حميمية بجوار الملك الذي كان ودودا جدا معه أمس، مرتديا –بشكل يثير الانتباه والتشكك- سويتر أزرقا عاديا من النوع الذي قد يرتديه في مزرعته الخاصة في تكساس؛ وأعطى الملك عبد الله لبوش قلادة من الذهب رفيعة القيمة (قلادة الملك عبد العزيز التي تمنح في السعودية لكبار قادة وزعماء العالم)، لكن لم يكشف أحد السبب في منح بوش هذه الجائزة الملكية، ربما يكون سبب "التكريم النفاقي" إمداد المملكة حتى الآن بأسلحة قيمتها مليارات الدولارات، لكي تستعملها ضد أعداء النظام السعودي الخياليين.
هي كانت خداعا بالطبع مثل كل الكلمات التي سمعها العرب من الأمريكيين في الأيام السبعة الماضية، منذ أن بدأ الرئيس "الباهت" نزهته السياحية حول الشرق الأوسط.
ربما لا تعتقد ذلك وأنت تشاهد هذا الرجل السخيف وهو يقفز متأبطا الملك ذراعا في ذراع، فيما يفترض أن يكون نوعا من الرقص (العرضة السعودية)، التي يستخدم فيها السيف السعودي المقوس، الذي لوح به ذات يوم صلاح الدين، ذلك الزعيم الكردي الذي هزم الصليبيين من قبل، من أجل ما يسميه بوش الآن "بالضفة الغربية المتنازع عليها".
هل هذا هو السلوك الذي يفترض أن يسلكه رؤساء "البطة العرجاء" الأمريكان؟ بالتأكيد سيسأل سكان الشرق الأوسط الذين شاهدوا هذا المشهد السخيف هذا السؤال. منذ أن اندلعت الثورة الإيرانية عام 1979، وهناك حرب باردة إسلامية داخل الشرق الأوسط - لكن هل هذه هي الطريقة التي يفكر بها بوش للنضال من أجل روح الإسلام؟
قبل أن يحل مساء ليلة أمس، انفجر عالم الرئيس الأمريكي في بيروت عندما انفجرت سيارة مفخخة بجوار سيارة رباعية الدفع تقل موظفين بالسفارة الأمريكية، وقتل أربعة لبنانيين وأصيب سائق السفارة الأمريكية إصابة بالغة على ما يبدو. وبينما كان بوش مستلقيا في المزرعة الملكية السعودية في الجنادرية، قتلت القوات الإسرائيلية 19 فلسطينيا في قطاع غزة، معظمهم من أعضاء حماس، أحدهم ابن محمود الزهار أحد قادة الحركة، والذي قال لاحقا إن إسرائيل لا تنفذ ذلك الهجوم – الذي حدث في نفس اليوم الذي مقتل فيه إسرائيلي بصاروخ فلسطيني - ما لم يكن قد شجعها جورج بوش على القيام بذلك.
الفارق بين الواقع وعالم أوهام الحكومة الأمريكية ما كان يمكن أن يُتصور بشكل وحشي أكثر من هذا، بعد وعده للفلسطينيين "بدولة ذات سيادة" قبل نهاية العام، والتعهد "بالأمن" لإسرائيل – دون وعد بـ"الأمن" لـ"فلسطين"، كما يلاحظ العرب بوضوح، - وصل بوش إلى الخليج ليثير فزع الملوك حكام الممالك الغنية بالنفط من خطر العدوان الإيراني، وكالمعتاد جاء مسلحا بالعروض الأمريكية المعتادة لمبيعات أسلحة ضخمة لحماية أنظمة هذه الدول البوليسية وغير الديموقراطية من أقوى دول "محور الشر".
إنه نموذج فعال –وغريب أيضا- لتجوال الرئيس الأمريكي في الشرق الأوسط العربي على غير هدى، وعودة إلى "سياسة التخويف" التي تتبعها الولايات المتحدة بانتظام في الزيارات إلى قادة الخليج. ووافق بوش على إمداد السعوديين بما يزيد على صفقة الأسلحة التي أعلنت العام الماضي والتي بلغت قيمتها 10 مليارات جنيه استرليني لملوك الخليج - والتي يفترض أن تحميهم من الطموحات الإقليمية المفترضة لرئيس إيران غريب الأطوار محمود أحمدينجاد. وكالمعتاد، وعدت واشنطن إسرائيل بأن "تفوقها النوعي" في الأسلحة المتقدمة سيتم الحفاظ عليه، حتى في حالة أن يقرر السعوديون - الذين لم يدخلوا أي حرب على الإطلاق باستثناء النزاع مع صدام حسين عقب إحتلاله الكويت في التسعينيات - شن هجوم إنتحاري على حليف أمريكا الحقيقي الوحيد في الشرق الأوسط.
هذا بالطبع ليس كل جوانب العرض الكامل الذي أهدي للعرب، فالسيد بوش شوهد وهو يقبل خدي الملك عبد الله ويقبض بحميمية على يد الملك الاستبدادي الذي أظهرت دولته الإسلامية الوهابية "رحمتها" مؤخرا فقط تجاه امرأة سعودية اتهمت بالزنا بعد أن اغتصبت سبع مرات في الصحراء على مشارف الرياض، وغني عن القول إن السعوديين يدركون تماما أن عهد الرئيس بوش ينتهي في ظل فوضى في باكستان، وحرب عصابات كارثية ضد القوات الغربية في أفغانستان، وقتال عنيف في غزة، وحرب أهلية وشيكة في لبنان وكارثة هائلة في العراق.
والقنبلة التي انفجرت في بيروت قبل الخامسة مساء، تمثل صدمة وقحة للرئيس المسترخي في الرياض الذي يتمتع بمثل هذه العلاقات الوثيقة بالنظام السعودي - على الرغم من حقيقة أن غالبية مختطفي الطائرات في الجريمة ضد الإنسانية التي وقعت في 11 سبتمبر 2001 جاءوا من المملكة - حتى أنه سمح لأمرائها الشبان بالطيران من الولايات المتحدة عائدين إلى وطنهم فور الهجمات، والرحلتان اللتان قام بهما الملك عبد الله إلى مزرعة بوش الخاصة في تكساس كانتا كفيلتين على ما يبدو لمنح الرئيس الأمريكي ليلة في مزرعة قصر الملك السعودي، محاطا بالخضرة والتلال العشبية الرائعة.
والقنبلة التي سمع صوت انفجارها على مسافة أميال من العاصمة اللبنانية، دمرت بنايات في شارع ضيق في شرق بيروت كانت تمر فيه السيارة، بينما كان السفير الأمريكي يتجه - عبر مسار آخر في المدينة - نحو فندق في وسط المدينة قبل توجهه إلى واشنطن، لكن متحدثا باسم وزارة الخارجية أكد عدم حدوث أي إصابات لمواطنين أمريكيين. وكانت السيارة الأمريكية قد اتخذت مسارا غير معتاد قريبا من جسر الكرنتينا للسير نحو شمال بيروت على طول ضفة نهر المدينة الوحيد عندما تعرضت للتفجير، مما دعا المسئولين العسكريين اللبنانيين إلى التساؤل إذا ما كان مفجر القنبلة كان يعرف بدقة المسار الذي ستتخذه السيارة.
وهناك من يقول إن السيارة كانت قافلة "وهمية" بهدف صرف انتباه مفجري القنابل المحتملين عن مسار قافلة السفير جيفري فيلتمان الذي كان متجها لحضور استقبال في فندق بوسط المدينة، وكان الانفجار شديدا إلى درجة تدمير مصنع لإنتاج السجاد وانهيار سقفه وتحطم النوافذ في دائرة قطرها نصف ميل من مسرح الحادث.
بالنسبة إلى القادة العرب، كانت رسالة الرئيس بوش لقادة الخليج مألوفة تماما، ففي الثمانينات عندما كانت إدارة ريجان تدعم غزو صدام حسين لأراضي إيرانية، بذلت واشنطن جهدا كبيرا لتحذير قادة الخليج من خطر العدوان الإيراني. وعندما غزا صدام الكويت تغير التأكيد الأمريكي: الآن أصبح العراق هو الذي يشكل الخطر الأعظم على ممالكهم، لكن بعد تحرير الإمارة، تم إبلاغ ملوك النفط الأغنياء - ثانية - أن إيران عدوهم.
العرب لم يعودوا يقتنعون بهذه القصص المكررة عن "الخير مقابل الشر" ولا بوعود واشنطن بالمساعدة في إنشاء دولة فلسطينية في نهاية العام، قبل يوم واحد من إعلان إسرائيل خططها لبناء مزيد من البيوت للمستوطنين على أراضي عربية وسط مستعمرات يهودية أقيمت بشكل غير قانوني على الأرض الفلسطينية.
ولفهم طبيعة هذه العلاقة الإستثنائية مع ملوك الخليج، من الضروري التذكير بأن واشنطن - مع بريطانيا وفرنسا وروسيا - تواصل ضخ الأسلحة إلى المنطقة، منذ أن وعد بوش الأب بـ"واحة سلام خالية من الأسلحة" في الخليج!
خلال العقد الماضي وحده أنفق عرب الخليج مليارات الدولارات النفطية على الأسلحة الأمريكية، والإحصائيات تروي قصتهم: في 1998 و1999 وحدهما وصل الإنفاق العسكري في الخليج العربي إلى 40 مليار استرليني، وفيما بين عامي 1997 و2005، وقع شيوخ الإمارات العربية المتحدة – الذين استضافوا بوش قبل أن يواصل جولته إلى الرياض - عقود أسلحة قيمتها 9 مليارات استرليني مع دول غربية، وفيما بين 1991 و1993 – عندما كان العراق "عدوا" – كانت فرق التدريب العسكري الأمريكية تدير أكثر من 14 مليار استرليني من ترسانة السلاح السعودية وباعت أمريكا لها ما قيمته 12 مليار استرليني من الأسلحة الأمريكية الجديدة. والآن يمتلك السعوديون 72 طائرة أمريكية من طراز إف -15 القاذفة المقاتلة و114 من طراز تورنادو البريطانية.
فماذا تغير في السنوات الـ17 الماضية، في 17 مايو 1991، على سبيل المثال، قال جورج بوش الأب إن هناك "أسباب حقيقية للتفاؤل" حول السلام في الشرق الأوسط. "نحن سنواصل العمل في عملية (السلام). "نحن لن نتخلى عن السلام".
وجيمس بيكر، الذي كان وزيرا للخارجية الأمريكية، حذر في 23 مايو 1991 من أن استمرار بناء المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية "يعوق" السلام في الشرق الأوسط مستقبلا، بالضبط مثلما قالت وزيرة الخارجية الحالية الأسبوع الماضي، وفي الوقت نفسه طمأن ديك تشيني الإسرائيليين بأن الولايات المتحدة ستحمي "أمنهم".
ربما أن الغرب يمتلك ذاكرة ضعيفة، لكن العرب، الذين يعيشون في هذه المنطقة التي تسمى الشرق الأوسط ليسوا أغبياء، وليست ذاكرتهم ضعيفة بنفس الشكل، هم يعرفون جيدا ماذا يريد جورج بوش الآن، فبعد دعوته لنشر "الديمقراطية" في المنطقة –تلك السياسة التي تسببت في فوز الشيعة في الانتخابات في العراق، وفوز حماس الساحق في غزة والمكسب الكبير الذي حققه الإخوان المسلمون في السلطة السياسية في مصر - يبدو واضحا أن واشنطن اكتشفت خطأ أولويات بوش، بدلا من أن يدعو "لشرق أوسط جديد"، يحاول بوش، المستلقي وسط الأرائك الحريرية في قصر الملك السعودي، العودة إلى "الشرق الأوسط القديم"، حيث يعمل بنشاط رجال الأمن السريين، وتعمل غرف التعذيب - وحيث يكون سماع أنين السجناء مفيدا – تحت إمرة رؤساء وملوك دكتاتوريين "معتدلين"،. فمن ياترى من الطغاة العرب سيعترض على ذلك؟
ترجمة أيمن شرف – الدستور- 17 يناير 2008
مقالات هيكل والشخصنة
يبدو أن مقالات محمد حسنين هيكل الستة التي امتنع عن نشرها 25 عاما، بناء على رغبته واستجابة لرغبة الرئيس مبارك، ثم نشرها أخيرا في المصري اليوم، قد وجدت طريقها متسللة إلى خطاب الرئيس مبارك بمناسبة عيد الشرطة، فالرئيس قال تلميحا إن "عجلة التاريخ لا تعرف الرجوع الى الوراء، والأصوات الآتية من الماضي لا مكان لها في حاضر الوطن ومستقبله". وتابع: "إننا نعي جيدا اعتبارات أمننا القومي، فلا نفرط فيها، ولا نسمح لأحد بأن يقترب منها أو يحاول اختراقها، كما نعلم ما نواجهه من مخاطر وتحديات، مابين إرهاب يتربص بنا، وتطرف يستتر بعباءة الدين ليعود بنا إلى الوراء، ومحاولات للوقيعة بين مسلمينا وأقباطنا، وقوى خارجية تحاول التدخل في شئوننا تحت ذرائع مختلفة، وأخرى من بيننا تنشر دعاوى التشكيك والإحباط".
وإذا كان هذا التلميح صحيحا، فإنه يرقى لمستوى "النكتة"، فمقالات هيكل الستة وإن لم تنشر نصا طوال هذه السنوات الخمس والعشرين، فقد نشرت ضمنا في العديد من مقالاته وكتبه التي ألفها في هذه الفترة الطويلة، وتناول محتواها أيضا في لقاءاته التليفزيونية على قناة الجزيرة، وتناول كثيرون من الكتاب والمفكرين تلك المحاور المتعلقة برؤية أمن مصر القومي، والصحف والمجلات والكتب التي تتناول ذلك الموضوع وتنتقد السياسة المصرية في عهد الرئيس لا حصر لها.
ونشرها الآن ليس إلا نوعا من التوثيق لوجهة نظره، وليست –في ظني- تعبيرا عن موقف، فلو كانت كذلك لأصر هيكل على نشرها في حينه بأي صورة من الصور، لكي يسجل موقفا ويتحمل تبعاته، لكن هيكل على ما يبدو لا يفضل مثل هذه الاختيارات الحدية، وتاريخه مع الرئيس عبد الناصر تحديدا، ومع الرئيس السادات –جزئيا- يؤكد ذلك.. لا يفضل مقعد المعارض، وإنما يكتفي بمقعد المستشار والناصح، فلا يدخل معارك من أجل وجهة نظره تحسبا للعواقب، وربما اقتناعا منه بأنه لا جدوى من معارضة الرئيس –أي رئيس- حتى لو كانت المعارضة ضرورية لكي يتخلى الرئيس –أي رئيس- عن إحساسه بأنه المتصرف الأوحد في الأمور، وأن الآخرين من حقهم أن يكون لهم دور ورأي وكلمة مخالفة، بل وتأثير واضح في الرأي العام.
فلماذا هذه الحساسية من مقالات هيكل تحديدا، هل لأنها كانت موجهة إلى الرئيس شخصيا، هل لأنها تتحدث بأثر رجعي عما كان يجب عمله، ولم يُعمل، فظهرت النتائج الكارثية واضحة للعيان، هل اعتبرها المحيطون بالرئيس نوعا من "المعايرة"، على طريقة "مش قلت لكم قبل كده وإنتوا ما انتبهتوش"، لماذا هذه الشخصنة؟
أرابيسك أيمن شرف